ملخص كتاب
خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة
الكاتب: الدكتور علي الوردي /الطبعة الثامنة: 2022
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحذير
… إن هذا كتاب ربما ينفع الراشدين من الناس - أولئك الذين خبروا الحياة وأصابهم من
نكباتها وصدماتها ما أصابهم. أما المستجدون والمدللون والأغرار الذين لم يمارسوا
بعد مشكلة الواقع ولم يذوقوا من مرارة الحياة شيئاً فالأولى بهم أن لا يقرأوا هذا
الكتاب.. إنه قد يضرهم ضرراً بليغاً.
إن
المقاييس التي نميّز بها بين المستحيل والممكن من الأمور هي في الواقع مقاييس
نسبية. إذ هي منبعثة من التقاليد والمصطلحات والمواضعات الاجتماعية التي تعود
عليها الفرد أو أوحي بها إليه في بيته أو مدرسته أو ناديه ... فالفرد الذي لم ير
مذياعاً ولم يسمع عن الإذاعة شيئاً من قبل لا يكاد يصدق إذا أخبره أحد أصدقائه بأن
هناك آلة بها الإنسان صوت غيره يُسمع على بعد آلاف الأميال.
ومن
الأقوال التي كان الغزالي يردّدها في كتبه قوله:
«إن الإنسان يستغرب ما لم يعهده، حتى لو حدثه
أحد أنه لو حك خشبة بخشبة، لخرج منها شيء، أحمر بمقدار عدسة يأكل هذه البلدة
وأهلها، ولم يكن رأى النار قط، لاستغرب ذلك وأنكره» إن تركيب العقل البشري متماثل في جميع الناس
سيان في ذلك بين المتعلمين منهم وغير المتعلمين. فكل إنسان على عقله منظار أو إطار
ينظر إلى الكون من خلاله وهو إذن لا يصدق بالأمور التي تقع خارج هذا الإطار. لا
أقصد بهذا البحث أن أقنع القُرّاء. فإن الذي قد تعود أن ينظر إلى الحقيقة من ناحية
مختلفة عن جميع الناحية التي أنظر منها إليها أرى من المستحيل إقناعه مهما كانت
قوة البراهين التي أعرضها عليه.
لقد
وصلت بهذا البحث إلى نتيجة هي في الواقع معاكسة لجميع ما دأب المعلمون والكتاب
والخطباء في هذه البلاد أن يلقنونا إياها.
فهم
قد وعظونا وعلمونا على أن من جد وجد وأن كل من سار على الدرب وصل وأن مستقبل الفرد
بيده إذ هو يستطيع أن يصنع ما يشاء بحزمه وإرادة حسب ما يشاء بحزمه وسعيه واجتهاده
إن
هذه نصيحة لا بأس أن نلقيها على أطفالنا وتلاميذنا الصغار حيث نحرضهم بها على
العمل والدأب ومواصلة الدراسة ثم نردعهم بها عن اليأس والخمول. هذا ولكن التطرف
فيها وتلقين الكبار والبالغين إياها قد يؤديان إلى عكس النتيجة التي نتوخاها منها.
وكثيراً
ما نحرص على شيء وندأب في سبيله ونذوب من أجله عزماً وإرادة وسعياً ثم نراه يبتعد
عنا كلما أردنا ويصعب علينا بمقدار ما حرصنا عليه. حتى إذا أهملناه أو تغافلنا عنه
وجدناه قد استلان بين أيدينا وتراضخ بشكل قد يثير فينا الدهشة والمرارة.
وقد قيل في المثل القديم: تجري الرياح
بما لا تشتهي السفن.
وأود
أن أصارح القارئ بأني كنت في أيام شبابي ضحية من ضحايا هذا المبدأ السخيف مبدأ «من
جد وجد». فقد كنت أضيع معظم أوقاتي بالكدح والحرص والمثابرة ووضع الخطط ثم محاولة
تنفيذها بدقة. وقد وجدت نفسي أخيراً أضعف في معركة الحياة وأقل نجاحاً من أولئك
المسترسلين الذين كانوا يسيرون على طبيعتهم من غير تكلف أو حرص أو جهد كبير.
الإنسان
يسمع دائماً بأن النجاح والرزق والتفوق هو من نتائج السعي والتدبير والمثابرة
فيأخذ بالسعي والجد إذن لكي ينال النجاح على زعمه ولكنه يرى نفسه قد تخلف عن الركب
بالرغم من ذلك بينما سبقه غيره ممن هم أقل منه جهداً وأضعف إرادة فيعزو صاحبنا ذلك
إلى الحظ ويأخذ عندئذ بالشكوى والبكاء من سوء حظه الذي لم يساوه مع أقرانه. ومما
لا ريب فيه أنه ليس هناك حظ بالمعنى الذي يفهمه الناس عادة من هذه الكلمة إن هناك
بالأحرى قوى لا شعورية تنبثق من أغوار النفس ويكون لها أثر لا يستهان به في نجاح
الفرد أو نبوغه أو تفوقه والفرق الذي نراه أحياناً بين فرد وآخر في مبلغ النجاح
رغم تشابههما في السعي والذكاء ناتج في الأغلب من كون أحدهما يسمح لقواه
اللاشعورية بالانبثاق ويستفيد منها في حياته العملية بينما يكدح الآخر طول وقته
ويجهد نفسه فيكبح بذلك تلك القوى ولا يصغي لحوادسها وحوافزها الخارقة ولذا تراه قد
ابتعد رغم أنفه عن طريق النجاح. إن التقصد والتعمد والتكلف والتعجل أمور مناقضة
لحوافز اللاشعور ومفسدة لها، ونحن لا نحاول بهذا أن نستصغر أهمية الإرادة والجهد
والسعي أو ننكر أثرها في نجاح الفرد فهناك أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد. وهناك أوقات أخرى تقتضي من
الفرد الانسياب والاسترسال واللامبالاة وقلة الحرص والسعيد هو من استطاع أن يفرّق
بين هذه الأوقات وتلك ثم يسلك في كل حين حسبما يقتضيه المقام.
فنحن نريد بهذا البحث أن نتغلغل في
أعماق النفس البشرية ونتعرف إلى الأسباب اللاشعورية التي تؤدي إلى نجاح فرد أو إلى
تفوقه على أقرانه العائشين في مثل ظروفه.
إن
النجاح في الحقيقة أمر نادر لا يستطيع أن يناله إلا القليل من الناس مهما كان نوع
النظام الذي يعيشون فيه، فلو نجح جميع الناس وبرعوا كلهم على درجة واحدة لوقف
التطور الاجتماعي ولأصبح البشر مثل أسراب النحل التي تصنع الخلية وتجمع العسل.
إن
تطوّر المجتمع البشري ناشئ من هذه المنافسة الحادة التي تدفع كل فرد على أن يبرع
وأن يتفوق على غيره. فالتطور قائم إذن على أكوام من أبدان الضحايا، أبدان أولئك
الذين فشلوا في الحياة فصعد على أكتافهم الناجحون.
وسوف
لا نتطرق إذن إلى أسباب النجاح الزائف الذي يأتي من الوساطة أو القربى أو الاسترخاء
أو التملق أو السمسرة - تلك الطرق التي يلجأ إليها بعض ضعاف النفوس في سبيل الوصول
إلى النجاح إن هذا لا نعتبره نجاحاً بالمعنى الحقيقي. فالنجاح الذي نقصده هو الذي
يستفيد منه الفرد والمجتمع معاً. وهذا هو النجاح الذي يبقى أثره على مرور الأجيال.
إن
موضوع القوى النفسية قد أصبح اليوم موضوعاً تجريبياً محترماً يشتغل فيه أساتذة من
طراز عالمي وتؤسس له المختبرات وتؤلف فيه الكتب الجامعية. ويؤسفنا حقاً أن نرى
العالم العربي بعيداً كل البعد عن مواكبة هذا التطور العلمي أو الاقتباس منه
والتأثر به فلا يزال مثقفونا غافلين عنه ولعل بعضهم لم يسمع عنه قليلاً أو كثيراً.
والغريب أن مثقفينا لا يزالون يعيشون في عقلية القرن التاسع عشر غير دارين أن هذه
العقلية أصبحت اليوم عتيقة يكاد يضحك عليها علماء هذا القرن ويندهشون من شدة
غرورها وخيلائها. وصل علماء القرن التاسع عشر في إيمانهم بالمادة وفي تكذيبهم بما
سواها إلى الدرجة القصوى فكانوا سريعين إلى إنكار كل ظاهرة لا يمكن تفسيرها تفسيراً
مادياً. وقد أصدر (بوخنر) في منتصف ذلك القرن كتاباً سمّاه القوة والمادة حاول فيه
أن يفسر الكون كله من أبسط الأشياء فيه إلى أكثرها تعقيداً بتفاعل المادة والحركة.
فـأخذ
الباحثون يكتشفون أمواجاً كهربائية جديدة مرة بعد أخرى. فقد اكتشف (هرتز) في سنة
(1883) الأمواج اللاسلكية، واكتشف (رونتجن) في سنة (1895) الأشعة السينية. وفي سنة
(1900) اكتشفت (مدام كوري). عنصر الراديوم حيث اتضح أخيراً أنه يبث ثلاثة أنواع من
الإشعاع أهمها ما يسمى بالأشعة الجيمية. ثم اكتشف (مليكان) من بعد ذلك الأمواج الكونية
ومن المحتمل جداً أن العلماء سيظلون يكتشفون أمواجاً جديدة حيناً بعد حين إلى ما
شاء الله.
ولقد
أصبح العلماء اليوم يعتقدون بأن هذا الفضاء الذي نعيش فيه مملوء بأمواج غير منظورة
يكاد يعجز العد عن إحصائها وهي تتراطم على أجسامنا في كل لحظة تمر علينا من غير أن
نحس بها أو ندرك مبلغ أثرها على المجريات النفسية والحيوية فينا.
إن
الباحث كلما تعمق في علمه وتغلغل في دراسته لأسرار الكون ظهرت له منها مشاكل
وغوامض أعوص من ذي قبل. ونحن
اليوم لا يجوز لنا أن نتعصب لرأي من الآراء مهما بدا هذا الرأي قوياً أو مؤيداً بالبراهين
العلمية. إن البراهين أمور اعتبارية وهي تتغير بتغير الأزمان فالبرهان الذي نقبله
اليوم ربما بدا لنا سخيفاً غداً.
أعرض
على القارئ موضوع القوى النفسية وأكتفي به كما فعل غيري إنما حاولت أن أطبق نتائج
هذا الموضوع على وقائع الحياة اليومية وأستضيء به فيما يتصل بالفرد من حيث أفكاره
وأعماله التي تعين مصيره وتؤدي به إلى النجاح أو الفشل. إن هذه القوى النفسية موجودة في جميع الناس تقريباً
لكنها لا تظهر فيهم على درجة واحدة فأغلب الناس يملكون منها قسطاً ضئيلاً لا
يكادون يحسون به في أنفسهم وهم قد ينتفعون منها من حيث لا يشعرون ـ كما
سنذكره فيما بعد فهي كمثل السلاح قد يستخدمه الإنسان في ظلم غيره وقد يستخدمه كذلك
في كفاح الظالمين إن القوى النفسية الخارقة موجودة في كل إنسان. وما الفرق الذي
نلاحظه بين بعض الناس وبعضهم الآخر في هذا الخصوص. إن كل واحد منا نبي أو ساحر إلى
حد ما فالنبوة أو السحر كامنان في أعماق نفوسنا بدرجة ضعيفة أو قوية وكثيراً ما
نستفيد منها في حياتنا العملية من حيث لا نشعر. إن القوى النفسية في الحقيقة لا
تأتي الفرد طوع إرادته وهي قد تضعف أو تزول حين يريد الفرد أن يقوّيها في نفسه
إنها قوى لاشعورية تبعث من أعماق العقل الباطن ولذا فهي قد يعرقلها التفكير
ويضعفها التمرين والتعليم. وقد روى لنا الثقات قصصاً عديدة عن أفراد كانوا يملكون
القوى النفسية بدرجة عظيمة في أوائل حياتهم ثم ضاعت عليهم تلك الملكة بعدما دخلوا
المدرسة ومارسوا التفكير المركز والتمرين في أعمالهم العقلية.
سميت
هذا الكتاب (خوارق اللاشعور أوأسرار الشخصية الناجحة) لأني أريد بذلك أن ألفت نظر
القارئ العربي إلى ناحية من الشخصية البشرية ربما كان غافلاً عنها هي ناحية
اللاشعور أو ما يسمى أحياناً بالعقل الباطن.
إن الأبحاث النفسية الأخيرة تكاد تشير إلى أن
الإنسان مسير في أغلب أعماله لا مخيّر ففي أعماق النفس البشرية من العوامل الكامنة
ما يكاد يشبه تلك الآلات المتنوعة المخفية في باطن الطيارة.
لقد
كان المفكرون قبل (فرويد) متأثرين بالفلسفة القديمة التي كانت تؤمن بالعقل الظاهر
كل الإيمان وتعتبره المسيطر الأكبر على جميع تصرفات الإنسان فلم يكن يخطر ببالهم
أن هنالك في باطن النفس منطقة غير واعية تعمل وتؤثر من غير أن يشعر بها الإنسان
وعلى هذا كانوا يفسرون كل حركة أو سكنة من سلوك الإنسان تفسيراً منطقياً مستنداً
على الوعي والتفكير.
فإذا
أهانك رجل أو اعتدى عليك بحيث لم تستطع لظروف خاصة أن ترد الإهانة عليه دخلت رغبة
الانتقام آنذاك في عقلك الباطن وبقيت هنالك كامنة تحاول الظهور والتنفيس عن ذاتها
بشتى الصور والأساليب. فأنت تصبح إذن مسيراً من حيث لا تشعر برغبة مدفونة في أعماق
نفسك ولعلك قد تنسى حادثة الاعتداء إذ هي ربما جرت في أيام صباك وسحبت عليها
الأيام ذيول النسيان، ولكنك تبقى رغم ذلك متأثراً بها تأثراً لا شعورياً. فلا تكاد
ترى رجلاً آخر له شبه بذلك الذي أهانك أو اعتدى عليك حتى تشعر بكراهته والميل إلى
الانتقام منه. فإذا سئلت عن سبب كراهتك له من دون معرفة سابقة له ربما كان جوابك:
((إنك تكرهه من الله)) إنك بذلك تنسب إلى الله ظلماً تقوم به أنت بتأثير من عقلك
الباطن الدفين.
إن المشتغلين ببحث القوى النفسية الخارقة انقسموا إزاء نظرية العقل الباطن إلى جماعتين متضادتين: فالجماعة التي تعتقد بروحية تلك القوى مالت إلى إنكار وجود العقل الباطن وأخذت تعتبر تلك القوى منبثقة من مصدر خارج النفس البشرية أي إنها صادرة في نظرهم من روح الكون أو سرّه الخلّاق. أما الذين اعتبروا تلك القوى من خصائص الشخصية البشرية فقد أخذوا يثبتون وجود العقل الباطن ويصرون على أنه المنبع الذي تنبثق تلك القوى منه. إن الجماعة الأولى تتصور العقل البشري متجهاً في طبقاته الخفية إلى الأعلى أي نحو ملكوت الله أو الروح أما الجماعة الثانية فترى عكس ذلك وتعتقد بأن العقل متجهاً نحو الأسفل حيث تغور طبقاته الخفية في أعماق النفس أولئك يؤمنون بالله وهؤلاء يؤمنون بالإنسان! ومن يدرينا فلعل الله والإنسان شيء واحد. ولقد قال أحد الحكماء قديماً: ((من عرف نفسه فقد عرف ربه)).
وعلى
كل حال فإن أغلب الباحثين في هذا الموضوع يميلون إلى الاعتقاد بوجود العقل الباطن
وأنه مصدر القوى النفسية الخارقة. يقول (مايرز): إن العقل الباطن يحتوي على منجم
من الذهب وكومة من الأقذار أيضاً. إذا كان العقل الباطن كما تقول مبعثاً لنوعين
مختلفين من الحوافز أحدهما صالح والآخر طالح، فكيف يتأتى للفرد العادي أن يميز
بينهما لكي يستطيع أن يسير على زعمك في سبيل النجاح؟
إن الإنسان يجب أن يكون حذراً كل الحذر من حوافز عقله الباطن إذ لا يجوز له أن ينجرف بما توحي به إليه انجرافاً تاماً. فكثيراً ما يخطر ببال الإنسان خاطر أو تلمع في ذهنه فكرة، وهو يقف عند ذاك حائراً لا يدري هل أن هذا الخاطر قد انبعث من قواه الكاشفة أم من رغباته المكبوتة. إنه يحتاج في مثل هذه الحالة إذن إلى مفتاح يحلّ له هذا اللغز ويفرق له بين الصالح والطالح من حوافزه اللاشعورية. فأنت مثلاً قد ترى شخصاً لأول مرة في حياتك فتكرهه فوراً وتتقزز نفسك منه وأنت لا تدري ما الذي دعاك إلى هذه الكراهية المفاجئة.
إنك قد تقف حائراً متردداً بين تفسيرين اثنين: إما أن يكون هذا الشخص المكروه شبيهاً بشخص آخر كان قد آذاك فيما مضى من الأيام وترك هذا الأذى في أعماق عقلك الباطن عقدة كامنة ضد كل من يشبهه، وإما أن يكون قد كرهك هو في الوقت نفسه الذي كرهته أنت فيه حيث حدث بينكما تجاوب لا شعوري ولعله كان هو البادئ بشعور الكراهة فانتقل هذا الشعور إليك عن طريق الأمواج النفسية أو طريق تناقل الأفكار. فالفرد الناضج قادر إلى حد ما أن يكشف ما في عقله الباطن من عقد ورغبات مكبوتة. وهو بعد مرور التجارب المتنوعة عليه يستطيع أن يفرق قليلاً أو كثيراً بين ما هو ضار وما هو نافع من حوافز نفسه. إن الفرد كلما قلت عقده النفسية كان أقدر على الانتفاع من قواه الخارقة فالفرد الذي امتلأت نفسه بالعقد والرغبات المكبوتة يصعب عليه النجاح في معاملته مع الناس، ذلك لأن قواه الخارقة لا تكون إذ ذاك نقية أو حرة في عملها.. فهي قد تلتاث وتختلط بما يتاخمها من العقد والعواطف المغلوطة وبذلك يضيع على صاحبها ما تنتج من كشف مبدع أو إنجاز رائع. إن الفرد المعقدة نفسه يكره ويحب على غير أساس صحيح إنه يجري وراء عواطفه المكبوتة ولذا فهو لا يستطيع أن يفهم حقائق الناس أو يتغلغل في أعماق نفوسهم إنه قد يميل نحو الأدنياء. وينفر من الأكفاء. فيحفر بذلك قبره بيده ويسعى إلى حتفه بظلفه. والخلاصة: إن في أغوار اللاشعور قوى مبدعة تستطيع أن تقود الفرد في سبيل النجاح لو أحسن استثمارها وطهرت مما يلحق بها من أدران الهوى والعاطفة الممسوخة وإني لأظن بأن ما يسمى بالحظ عند العامة ناتج عن استثمار هذه القوى اللاشعورية. وكثير من الناس ينتفعون بهذه القوى في حياتهم العملية من غير أن يعرفوا مصدرها أو يفهموا ماهيتها فينسبونها إلى الحظ وليست هي من الحظ في شيء، إنها حوافز تنبعث من داخل النفس ويعتقد الناس أنها آتية من الخارج.
ــــ الإطار الفكري ـــ
لقد أشرنا من قبل إلى أن الإنسان اعتاد أن ينظر إلى الكون من خلال إطار فكري يحدد
مجال نظره وأنه يستغرب أو ينكر أي شيء لا يراه من خلال ذلك الإطار. فالإنسان بهذا
المعنى يشابه الحصان الذي يجر العربات حيث قد وضع على عينيه إطار لكي يتوجه ببصره
إلى الأمام فلا يرتبك أو يتطوح في سيره. ومن الممكن القول بأن كل جديد في العلم
يقابله المتعلمون وغير المتعلمين من الناس بالهزء. والتاريخ مملوء
بقصص العلماء والمخترعين والمكتشفين الذين قاسوا من الاضطهاد والحرق والاستهزاء
والتحقير ما قاسوا من جراء ما جاؤوا به من جديد في خدمة التطور العلمي والاجتماعي.
وهنا ينبغي
أن نميز بين المتعلم والمثقف فالمتعلم هو من تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه
منذ صغره. فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيّق في مجال نظره. هو قد
آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في
رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله. أما المثقف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة
جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب منها.
ومما يؤسف له أن المثقفين بيننا قليلون والمتعلمين كثيرون ومتعلمونا قد بلغ
غرورهم بما تعلموه مبلغاً لا يحسدون عليه. وهذا هو السبب الذي جعل أحدهم لا يحتمل
رأياً مخالفاً لرأيه. يُقال إن المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص
ما هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف الحقيقي يكاد لا يطمئن إلى صحة رأيه،
ذلك لأن المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغير من وقت لآخر.
وكثيراً ما وجد نفسه مقتنعاً برأي معين في يوم من الأيام ثم لا يكاد يمضي عليه
الزمن حتى تضعف قناعته بذلك الرأي.. وقد تنقلب أحياناً ضده انقلاباً شنيعاً. إن
الإطار الفكري الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون مؤلف جزؤه الأكبر من
المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه ويغرزها في أعماق
عقله الباطن والإنسان إذن متأثر بها من حيث لا يشعر فهو حين ينظر إلى ما حوله لا يدرك أن نظرته مقيدة ومحدودة. وكل
يقينه أنه حرّ في تفكيره وهنا يكمن الخطر فهو لا يكاد يرى أحداً يخالفه في رأيه
حتى يثور غاضباً ويتحفز للاعتداء عليه وهو عندما يعتدي على المخالف له بالرأي لا
يعد ذلك شيئاً ولا ظلماً إذ هو يعتقد بأنه يجاهد في سبيل الحقيقة ويكافح ضد الباطل. إن
الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من إطاره الفكري إلا نادراً. فهو فرض لازب عليه.
فالإطار شيء كامن في اللاشعور كما ألمحنا إليه آنفاً والإنسان لا يستطيع أن يتخلص
من شيء لا يشعر به. إن الباحث المبدع يمتاز عن الرجل العادي بكونه يعترف بإطاره
الفكري ولذا فهو أقدر على مواجهة الحقيقة الجديدة من غيره ليس من العجيب أن يختلف الناس في أذواقهم وميولهم ولكن العجب
بالأحرى أن يتخاصموا من أجل هذا الاختلاف. فالذوق كالنظر العقلي عليه إطار يحدد مجاله.
أعجب حقاً حين أرى الناس يتنازعون على مثل هذه الأمور من غير أن يقفوا لحظة ليدبروا
ما على أبصارهم وأذواقهم من قيود لاشعورية. فالإنسان يحب الفتاة الجميلة أو يحب
الضمان الاقتصادي والمنزلة الاجتماعية ولكنه لا يحب الحقيقة إلا إذا ساعدته في
نوال شيء من هذه الأهداف اللذيذة المرغوبة.
لقد دلّ التاريخ على أن كل دين مهما كان نوعه، لا يكاد ينتشر
حتى ينشق على نفسه أي إنه لا يكاد ينتصر وينجح حتى تظهر فيه الفرق المتطاحنة والشيع
المتنابذة وكل فرقة تدعي أنها هي الأحق والأعدل وأنها وحدها الناجية من دون الفِرق
الأخرى والعجيب أن نرى المؤرخين يعزون سبب التفرق في دين من الأديان إلى فلان أو
فلان من شخصيات التاريخ ثم يأخذون بذمه وصبّ اللعنات عليه على اعتبار أنه قد فرّق
الأمة وشق عصا الجماعة. الواقع أن التفرقة طبيعة لازبة من طبائع العقل البشري.
والتفرقة لا تبدأ عادة إلا بعد النصر لأن نزاع المصالح يأخذ عند ذلك بالظهور. فكل
فرد منغمر في ذاته وتراه إذن قد نسي مساوئه وأكد على محاسنه ولذا فهو يثور إذا رأى
قريناً له يتقدم عليه في أي مجال من مجالات الحياة. إن المشكلة آتية من كون
الإنسان أنانياً بطبعه فهو مهما ادعى وتظاهر وتحذلق يحب أن يجرّ النار إلى قرصه.
إن دراسة تاريخ الأديان والدول تعطينا أمثلة لا حصر لها على صحة
هذا الرأي. فكل ثائر أو صاحب مذهب ديني أو سياسي يدعي أنه صاحب الحق الذي لا شبهة
فيه وهو بقدر ما يجمع من الأنصار ويحشد من السلاح، يعمل عقله على جمع البراهين
والأدلة التي تؤيد قضيته فهو يضرب خصمه بسيفه من ناحية وببرهانه العقلي من ناحية
أخرى ونحن حين ندرس تاريخ الإسلام نرى فيه مصداق هذا الأمر جلياً. ولعل الانشقاق قد
ظهر في الإسلام أسرع مما ظهر في غيره من الأديان وكأن ذالك نشأ من السرعة الهائلة
التي نجحت بها دعوة الإسلام وانتشرت فتوحاته في أقاصي الأرض. يُقال إن قضية
الخلافة كانت المنبع الرئيسي لجميع أنواع الفرق في الإسلام. وهذا قول له ما
يؤيده من الواقع، فالخلافة في أول أمرها عندما كانت زهداً وتقوى وخشونة كان الخلاف
عليها ضعيفاً جداً يكاد لا يشعر به أحد. أما حين بدأ الترف يأخذ مأخذه
فيها وحفت بها الأبهة وشاعت فيها شتى اللذات فقد تحرقت الأنفس نحوها وأخذت العقول
تنشئ المذاهب الفكرية والفرق الدينية في سبيل الظفر بها .يجدر بنا الآن أن نفهم ما هي
القيود التي تقيد عقل الإنسان في نظره إلى الحقيقة أو بعبارة أخرى ما هي العناصر
التي يتألف منها إطاره الفكري .
هنالك ثلاثة أنواع من القيود موضوعة على عقل الإنسان عند تفكيره
أو عند نظره في الأمور.
(1) القيود النفسية (2) القيود الاجتماعية (3) القيود الحضارية.
(1) فالإنسان قبل كل شيء يملك
نفساً معقدة فيها كثير من الرغبات المكبوتة والعواطف المشبوبة والاتجاهات الدفينة
ففكره إذن مقيد بهذه القيود النفسية التي لا يجد عنها محيصاً إلا نادراً والإنسان
قد يدعي أنه يفكر تفكيراً حراً لا تحيّز فيه ولا تعصب وهو صادق أحياناً في ما يقول
لأنه لا يعلم ماذا كمن في عقله الباطن من عقد وعواطف ونزوات خفية. وقد تسأل أحدهم مثلاً:
لماذا تحب (هتلر) من دون بقية الزعماء؟ فيجيبك بأنه يحبه لعظمته ونزاهته وإخلاصه
وعبقريته وما أشبه فهو يخلق الحجج والبراهين لكي يثبت لك أنه يطلب الحقيقة في حبه لهتلر.
والواقع أنه أحب (هتلر) لأن قصة هذا الرجل قد أشبعت بعض رغباته المكبوتة من حيث حب
القوة أو الاعتداء أو الفخار أو بعد الصيت. فصاحبنا يشعر بنقص في نفسه وقد وجد في
(هتلر) لا شعورياً ما يسد هذا النقص فهام به كما هام المجنون بليلاه .
(2) وفكر
الإنسان مقيد أيضاً بقيود اجتماعية علاوة على قيوده النفسية . فهو ينتمي إلى جماعة أو طبقة
أو بلد أو طائفة أو غير ذلك. ولذا فهو يتعصب لجماعته في الحق والباطل على منوال ما
كان عرب الجاهلية يفعلون حين قالوا: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»
وقد وجدت مثلاً في طبقة «الجندرمة» في العراق احتراماً للعهد
العثماني وتمجيداً لآثاره بشكل يدعو إلى العجب الشديد. لقد كان الحكم العثماني في
العراق حكماً خبيثاً دنيئاً من غير ريب هذا ولكن أفراد «الجندرمة» يحملون عنه صورة
تختلف عن الواقع اختلافاً بيناً. والسبب راجع إلى تكوين إطارهم الفكري فهم كانوا
من حكام ذلك العهد وقد نالوا فيه من الامتيازات وأنواع الترف والتعالي ما جعلهم
يعتبرونه أسعد عهد مرّ في تاريخ البشر. إنهم ينظرون إلى ذلك العهد من زاوية معاكسة
للزاوية التي ينظر بها أبناء الشعب إليه لقد كان أحد هؤلاء «الجندرمة»
يتحدث معي ذات مرة وهو يتأفف ويتذمر من تسفل أخلاق الموظفين هذه الأيام. فهو يقول
بأن الموظف كان في أيام العهد العثماني أنيقاً متعالياً لا يخالط عامة الناس ولا
يتكلم بلغتهم ولا يعيش معهم. أما اليوم فقد أصبح الموظف في نظره سفيهاً يتكلم مع
الرعية ويلبس كما يلبسون ويتكلم كما يتكلمون. ثم ختم كلامه بقوله: «لقد ذهب ذلك
العهد المجيد الذي كانت الحكومة فيه حكومة بمعنى الكلمة والرجال رجالاً» لم أستطع
بالطبع أن أجادله فكل جدل معه يثير غضبه ويحفز أعصابه. لقد تكون إطاره الفكري على
هذا الطراز فهو لا يملك من ذلك مناصاً. إنه ينظر إلى الحكومة نظرة تختلف عما أنظر
به إليها. فالحكومة في نظري خادمة الشعب والموظف أجيره ولكن الأمر في نظره على
العكس من ذلك. إنه ينتمي إلى جماعة غير الجماعة التي أنتمي إليها فهو من طبقة الحكام
وأنا من طبقة المحكومين ولكل من هاتين الطبقتين إطارها أو منظارها الخاص الذي تنظر
به إلى الأمور.
(3) والعقل البشري إضافة إلى قيوده النفسية والاجتماعية له قيوده
الحضارية وهي القيود التي تشترك بها كل الجماعات في داخل حضارة معينة. فالبدو
مثلاً لهم قيم ومثل وأهداف في الحياة عامة يؤمنون بها جميعاً رغم اختلافهم في
تعصبهم القبلي أو الطبقي أو الاجتماعي. وهذه القيم الحضارية تتغلغل في اللاشعور
عميقاً إذ ينشأ الفرد ويعتاد عليها حتى تصبح جزءاً لا يتجزأ من منطقه وأسلوب
تفكيره.
فالبدوي يقتل أخته مثلاً إذا اشتبه بسلوكها فهو يفعل ذلك
مفتخراً كأنه يجاهد في سبيل الحق أو الفضيلة. فإذا جادلته في الأمر اندهش من جدلك
واتهمك في شرفك وعرضك. وفي أمريكا يرحّب الأب بصديق ابنته ويتركهما وحدهما
يتحاضنان ويتعانقان في بيته. فإذا سألته ذلك قال إن ذلك هو السبيل الوحيد لكي
تتعرف ابنته على زوج المستقبل ولكي تمتحن شخصيته وأخلاقه. فالأمريكي يستهجن عمل
البدوي ويعتبره وحشية والبدوي يعتبر عمل الأمريكي دياثة وكل واحد منهما واثق من
صحة ما يقول وثوقاً تاماً.
التقى فارسان من فرسان القرون الوسطى عند نصب قديم فاختلفا في لونه،
أحدهما يقول إنه أصفر والآخر يقول إنه أزرق. والواقع أن النصب كان أصفر وأزرق في
آن واحد حيث كان مصبوغاً في أحد وجهيه بلون يخالف لون الوجه الآخر. ولم يشأ هذان
الفارسان الشهمان أن يقفا لحظة ليتفحصا لون النصب من كلا وجهيه لقد كان همّ كل
منهما منصباً على تفنيد الآخر وإعلان خطئه وكانت النتيجة أنهما تبادلا الشتائم
اللاذعة ثم تبادلا ضرب السيوف والرماح من بعد ذلك. هكذا يتنازع الناس في أغلب أمورهم. فكل واحد
منهم ينظر إلى الحقيقة من زاويته الخاصة ثم يريد من الغير أن يرى مثل ما يراه هو. إن
مشكلة النزاع البشري هي مشكلة المعايير والمناظير قبل أن تكون مشكلة الحق والباطل.
وما كان الناس يحسبون أنه نزاع بين حق وباطل هو الواقع نزاع بين حق وحق آخر. فكل
متنازع في الغالب يعتقد أنه المحق وخصمه المبطل ولو نظرت إلى الأمور من الزاوية
نفسها التي ينظر منها أي متنازع لوجدت شيئاً من الحق قليلاً أو كثيراً. فكل إنسان
تستطيع أن تعذره لو نظرت إلى الأمور بنفس المنظار الذي ينظر إليها به. والغريب أن
الناس يعذرون المجنون فيما يعمل ولا يعذرون المجرم هذا مع العلم أن المجرم
كالمجنون له عقليته الخاصة التي تدفعه إلى الجريمة وربما كان المجتمع الذي يعاقب
المجرم هو الذي يستحق العقاب بدلاً منه. فالحياة في الواقع هي نزاع بين المصالح المختلفة.
وكل إنسان. حتى القاتل وقاطع الطريق. يرى الحق من خلال منظاره الخاص ولذا كان
العدل هو أن تنحاز إلى جانب في العدد الأكبر ضد العدد الأصغر وبعبارة أخرى: إن الظلم ضروري أحياناً وذلك حين يتصادم حقان ويكون أحدهما عائداً لفئة
صغيرة تريد أن تتنعم على حساب الفئة الكبيرة. إن الحق يدعوك عند ذاك إلى أن تكون
ظالماً حتى تمحق ذلك الحق الضعيف وتنسفه من الوجود نسفاً.
لقد دلّ التاريخ على أن كل طاغية من طغاة العالم كان يعتقد بأنه
عادل بر صالح وهو يجد في من حوله ما يؤيده على هذا الاعتقاد. إنه يظلم أكثر الناس
ويسلبهم أموالهم ولكن هؤلاء المظلومين المسلوبين لا يعرفون فن الكلام ولذا تراهم
يتحملون الظلم وهم صامتون واجمون فهو يدري أنه يظلمهم لأنه قد وضع بينه وبينهم
حجاباً كثيفاً يمنع نفوذ الشكوى إليه منهم إنه إذن ينظر في الأمور من خلاف الإطار
الذي يضعه له هؤلاء المادحون والمنافقون والرائعون بنعمه الجزيلة فهو عادل من غير
شك في نظرهم. وكثيراً ما يسجل التاريخ قصص عدله وبرّه وفضله بأحرف من نور.
فالتاريخ يكتبه أولئك الكتاب والفقهاء الذين غمرهم الطاغية بفضله. وهم حين يصفونه
بالفضل والبر لم يقولوا كذباً لأنه قد تفضل عليهم وبرّ بهم حقاً: وكل إنسان يقيس
الأمور غالباً بمقياس ما في نفسه عنها ـ كما أشرنا إلى ذلك آنفاً من يستطيع أن يرفع صوته بشعر أو نثر جذبه الطاغية إليه وأسبغ
عليه من نعمه ما ينسيه ذلك الظلم الشامل الذي يرتع فيه إخوانه السادرون. فإذا
رفض هو النعمة الجديدة التي قدمها إليه الطاغية وأخذ ينطق بلسان إخوانه البائسين،
حاك فقهاء الطاغية حوله تهمة الزندقة أو الكفر أو حب العصيان والتفرقة وما إلى ذلك.
وهنا يأخذ النزاع الفكري شكلاً آخر. وتتحرك الأذهان نحو انقلاب جديد. إن
كل حركة اجتماعية تعتبر في أول أمرها زندقة أو تفرقة.. أو جنوناً. فإذا نجح أصحابه
في دعوتهم أصبحوا بعد ذلك أبطالاً خالدين. إن التاريخ سار على هذا المنوال في جميع
العصور. لا فرق في ذلك بين العصور الذهبية منها والفحمية، وكلما قرأتُ عن أحد
الملوك في أحد العصور المذهبة أنه كان عادلاً سألت نفسي: كم من الناس شملهم عدله؟
إن أي عصر من العصور التاريخية هو ذهبي لمن يتنعم به وفحمي لمن يبتئس
به. وما عليك إلا أن توازن بين عدد المتنعمين والمبتئسين فتحكم بما يمليه عليك
رجحان الميزان. إن المنطق الحديث لا يعترف بوجود خير مطلق أو عدل مطلق - كما
ألمحنا إلى ذلك آنفاً. فكل إنسان ينظر إلى العدل أو الخير من ناحيته الخاصة أو من
خلال إطاره الفكري. وكل من يدعوك إلى الخير المطلق فاعلم أنه يريد أن يغشك ويخدعك.
لعلنا لا نغالي إذا قلنا بأن الأدب العربي قد طبع في بعض أطوار
تاريخه بطابع المدح المأجور حيث كان الناثر أو الشاعر يتكسب بأدبه كما تتكسب الجارية بغنائها وغنجها
وهزّ بطنها. فهو أدب لا يصلح للحياة الديمقراطية الجديدة التي تنظر بمنظار الفقير
والبائس والصعلوك والمظلوم. ومن المؤسف أن نجد مدارسنا مكتظة بهذا الأدب الأرستقراطي.
فبينما نرى العالم يدرس أدب (هوغو) و (تولستوي) و(فولتير) و(دستوفسكي) و(برناردشو)
- هذا الأدب الذي يعبر عن آلام البؤساء والمساكين، نجد مدارسنا تدرس القصائد التي
تمدح الطغاة وتتغنى بقصورهم وجواريهم. وبانحرافاتهم الجنسية أيضاً.
يُقال إن الأديب العبقري هو الذي تنعكس على صفحة نفسه خوالج
الملايين من الناس
خوالج الملايين لا تكتفي بالانعكاس على صحفة النفس العبقرية كما تنعكس صور
الأشياء في المرآة. إنها حين تدخل أغوار تلك النفس تأخذ بالتلاقح والاختمار
والتفاعل هناك لتخرج بعدئذٍ على طراز غير طرازها الأول. وهنا يعرض لنا سؤال له صلة
مباشرة بموضوع هذا الكتاب وهو ما هي العبقرية؟ والجواب على هذا صعب جداً.
وكل باحث يأتي بتفسير للعبقرية يفترق عن تفسير الآخر في قليل أو
كثير أن الكثيرين ممن بحثوا هذا الموضوع كادوا يتفقون على وجود شيء من التشابه بين
بعض ظواهر العبقرية وظواهر الجنون ولفظة (العبقرية) في اللغة العربية منسوبة إلى
وادي عبقر الذي كان عرب الجاهلية يعتقدون أنه وادٍ مملوء بالجن ويقابل هذه اللفظة في
اللغة الإنكليزية كلمة (جينس) وهي مأخوذة من لفظة (جني) العربية على أرجح الظن. إن الأبحاث النفسية الحديثة
تشير إلى أن العبقري حين ينتج إنتاجه الرائع لا يشعر بنفسه فهو يدخل في حالة شاذة
لها شبه بالصرع أو الغيبوبة أو.. ويرى بعض الباحثين: أن العبقري يتقمص عند الإنتاج
شخصية أخرى غير شخصيته الاعتيادية وهو حين يرجع إلى حالته الاعتيادية ينذهل من
روعة إنتاجه ويعجب كيف استطاع هو نفسه أن ينتجه. يقول (كيتس) الأديب الإنكليزي المعروف إنه كان
يشعر عند الإنتاج بأن شخصاً آخر في داخله يملي عليه وهو لا يكاد يدرك جمال الأفكار
التي يأتي بها إلا بعد أن ينتهي من كتابتها. ويقول (شيللي): إنه عندما يستحر دماغه
ببعض الأفكار يأخذ بالغليان فيقذف عند ذلك بالصور والتعابير بسرعة أكبر مما يستطيع
هو أن يسجلها على الورق. إن العبقرية فيها شيء من الخروج عن الذات والدخول في عالم آخر لا
نعرف مداه الآن معرفة تامة. فهي تعتبر نوعاً من أنواع الجنون أحياناً لأنها تخرج
بصاحبها عن حالته الاعتيادية وتجعله ينظر إلى الحياة بمنظار ثاقب نقاذ لم يعهده
الناس من قبل. والمنغمس في إطاره الفكري والذي يجمد على ما اعتاد عليه من مألوفات
اجتماعية وحضارية يصعب عليه أن يكون مبدعاً أو عبقرياً. إن
الإطار الفكري مؤلف كما ذكرنا من العقد النفسية والعادات الاجتماعية والقيم
الحضارية وهذه تعتبر بمثابة العراقيل التي تقف في طريق الإبداع الحر. إن
القوى النفسية الخارقة تنبعث من أغوار النفس العبقرية انبعاثاً طليقاً فتنتج على
يد العبقري ما لا يستطيع أن ينتجه المنافقون والمتعصبون والمقلدون. إن ثلاثة من
كبار الفلاسفة
المحدثين بحثوا في العبقرية ووصلوا فيها إلى نتيجة تكاد تكون متشابهة - وهي | أن
العبقرية خروج عن الذات وانغمار في عالم أسمى وأوسع.
وهؤلاء الفلاسفة هم (شوبنهور) الألماني و (برجسون) الفرنسي و (توينبي)
الإنكليزي أما (شوبنهور) فيعتقد بأن العبقري يختلف عن الفرد العادي بشيء واحد قلة
التقيد بما يتقيد به عامة الناس من اندفاع في سبيل الحياة وتنازع على البقاء. يقول
(شوبنهور): العبقرية هي الموضوعية الخالصة في الفكر. فهي تلك القوة التي تجعل
صاحبها يهمل مصالحه ورغباته وأهدافه.. وينبذ شخصيته لمدة معينة بحيث يكون فيها
أداة خالصة للمعرفة وللنظر في الكون نظراً نقياً. إن المعرفة عند عامة الناس خاضعة لإرادة الحياة
وهي مسيرة عادة في سبيل المصالح الشخصية والمنافع الخاصة. أما عند العبقري
فالمعرفة هي التي تسير الحياة ويرى (شوبنهور) أن هذا هو
السبب الذي جعل الناس لا يفهمون العبقري وهو لا يفهمهم فهو يمشي وينظر نحو السماء
فيقع في البئر وكلما كان الإنسان أكثر اجتماعية كان في رأي (شوبنهور) أقل عبقرية
وأكثر ابتذالاً. والمرأة في نظر (شوبنهور) قد تملك أحياناً مقدرة
فائقة ولكنها لن تستطيع أن تكون عبقرية لأنها لا تقدر على الخروج من ذاتها فهي
ميالة إلى النظر في الأمور من خلال عواطفها ورغباتها الشخصية. ويعتقد (توينبي) أن
العامة من الناس متماثلون في المزاج ونمط التفكير أينما وليت وجهك - سواء في ذلك
المتمدنون منهم وغير المتمدنين ومعنى ذلك: أن رجل الشارع في أوروبا مثلاً لا يختلف
في طبيعة تفكيره عن رجل الشارع في أفريقيا أو آسيا. كلاهما بليد يميل إلى الخرافة
وسرعة التصديق. إن الفارق الذي يميّز المدنية عن الحياة البدائية هو في كثرة ظهور
العباقرة في الأولى وقلته في الثانية. فالمدينة تفسح المجال للعبقري أن يقول ما
يشاء أو يبدع ما يهوى. أما بين البدائيين والمتأخرين فالمجدد ممقوت وكل مَنْ يبتدع
شيئاً لم يعهدوه من قبل قابلوه بالإنكار أو الاستهزاء أو الأذى، ولا ينجح إلا
الجامدون المتزمتون الذين يتنافسون ويتفاخرون على مبلغ ما يتفوق به أحدهم في تمسكه
بالعادات الموروثة والقيم الاجتماعية.
ففي رأي (توينبي) أن المتمدنين يتجهون في إعجابهم وتقديرهم نحو
المبتكرين والمخترعين والعباقرة، بينما يتجه المتأخرون نحو المحافظين والمقلدين.
إنه فرق في اتجاه التقدير لا في نوعه. وهذا الاختلاف في اتجاه التقدير هو الذي
يؤدي إلى ذلك الاختلاف العظيم في مظهر الحضارة. والخلاصة التي نريد أن نستخلصها من
هذا الفصل الطويل هي أن العقل البشري متحيّز بطبيعته والفرد العادي لا يستطيع أن
يتجرد في تفكيره مهما حاول، لأن القيود التي تقيّد فكره مغروزة في أعماق عقله الباطن.
إن العبقري هو الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يسمو عن ذلك ويحلق في سماء الإبداع والاختراع.
لا يوجد على وجه هذه الأرض عقل قد تجرد من قيوده الفكرية تجرداً تاماً ومن الممكن ذلك أن نقول: إنه كلما كان التجرد في عقل من العقول أتمَّ كانت قدرته على الإبداع أعظم. فالعباقرة إذن يتفاضلون بمقدار ما يتحررون قليلاً أو كثيراً من إطارهم الفكري. إن التجرد المطلق مستحيل، والعبقرية الكاملة كذلك غير ممكنة.
ــــ الإرادة والنجاح ـــ
انصبت آراء معظم المفكّرين
منذ عهد بعيد على تمجيد الإرادة وتبيان ما تلعب من دور هام في سبيل النجاح فكل
مخفق كانوا ينسبون له ضعف الإرادة وقلة السعي وينصحون له لكي ينال نصيباً من النجاح.
أن يعزم على الجد وأن يقوي إرادته فيه. وقد امتلأت الكتب العربية قديمها وحديثها بهذه الفكرة فأينما ذهبت رأيت من
ينصحك على المنوال التالي: النجاح بالمثابرة كل من سار على الدرب وصل، الجد في
الجد والحرمان في الكسل، من طلب جلب ومن جال نال . . . إلى غير ذلك من أقاويل
اخترعها لنا المغرورون وأصحاب العبيد.
فإخواننا الذين ساعدهم الوضع أو الصدفة على نوال المناصب العالية أخذوا
ينظرون إلى من حولهم من البؤساء والمساكين بعين الكبرياء ويتبجحون عليهم بأنهم
إنما وصلوا إلى مناصبهم تلك بسعيهم وقوة إرادتهم.
وكثير منهم قد ثاروا في الحرب العالمية الأولى على الدولة
العثمانية وانحازوا إلى صفوف أعدائها. وكان من حسن حظهم أن تلك الدولة قد خرجت من
الحرب مغلوبة فصعدوا هم من جراء ذلك إلى مناصب لم يكونوا يحلمون بها. وظلوا في معظم
أوقاتهم يتحدثون عن كفاحهم الماضي ومساعيهم السالفة ثم يهتفون بملء أفواههم هذه هي نتيجة العمل
والدأب والمثابرة! فلو أن تلك الحرب العالمية كانت قد انتهت على عكس ما انتهت إليه
فعلاً وهذا أمر ليس لهم يد فيه لكان مصيرهم كمصير الخونة أو العصاة المنشقين على
الدولة.
يقول بعض أولي الحظوظ ممن ساعدته الظروف
على الدخول في المدارس والنجاح فيها: إنهم جدوا ودرسوا ثم نالوا أخيراً ما يستحقون
جزاء ما كانوا عليه من صبر وإرادة وقد نسي هؤلاء بأن ذلك المسكين الذي يكدح في
أيام الصيف من شروق الشمس إلى غروبها يحمل على ظهره التراب والآجر، هو أكثر منهم
صبراً وأقوى إرادة وقد رأيت ذات مرة صبياناً يعملون في بناء دار وهم يساقون بالعصا
إلى العمل المضني تحت وهج الشمس فهؤلاء لم يستطيعوا لفقرهم أن يدخلوا المدارس كما
دخلها إخواننا المدللون.
وليس لإرادتهم شأن في هذا المصير المؤلم الذي أناخ بهم.
إنهم ضحايا ظروف ولدوا فيها إن كل ناجح يصيبه الغرور قليلاً أو كثيراً ولذا تراه يعزو نجاحه إلى بعد نظره وشدة سعيه وقوة إرادته والواقع أن للنجاح عوامل أخرى علاوة على
هذه العوامل التي يتبجح بها الناجحون عادة. ولو سألت أي فرد قد بلغ منزلة رفيعة من منازل الجاه أو اليسر أو الشهرة:
هل كنت في بدء حياتك قد وضعت نصب عينيك هذه المنزلة التي أنت فيها فسعيت نحوها حتى
وصلت إليها؟ فإنه سوف يجيبك بالنفي على أرجح الظن
إن من النادر أن نجد شخصاً وضع في بدء حياته خطة دقيقة للعمل فسار عليها
خطوة بعد خطوة ثم نال النجاح أخيراً على أساسها. إن معظم الناس يتجهون في
غاية ثم ينحرفون عنها أخيراً. إن واقع الحياة أقوى من أية خطة يضعها عقل محدود. فالإنسان ينجرف في
كثير من الأحيان بتيار الحياة ويسير كما تمليه عليه ضرورات الساعة. فإذا نجح على
سبيل الصدفة رأيته قد صعّر خده على الناس وانثال عليهم لوماً وتقريعاً حاسباً سوء
حظهم من صنع أيديهم. فالفاشل يؤمن بوجود الحظ
بينما الناجح ينكر وجوده ونحن نقف بين هذين الموقفين موقفاً وسطاً محاولين أن
نتعلم من كل جانب ما هو جدير بالتعلم منه. ونحن لو أحصينا عدد الذين أرادوا النجاح فلم
يصلوا إليه لوجدناه أكثر جداً من عدد الذين نجحوا والمشكلة أننا لا نصغي إلى ما
يقول الفاشلون، فكل همنا منصب على الإعجاب بالناجح والتلهف لسماع أقواله. والناجح
حين يرانا معجبين به منصتين له يأخذ بالتحذلق والمباهاة ويعزو كل نجاحه إلى دأبه
وسعيه وإرادته. أما الفاشل فنحن نميل عادة إلى احتقاره وذمّ أعماله. وهو كلما أقسم
لنا بأغلظ الأيمان على أنه أراد وسعى وكافح ولكن التوفيق خانه استهزأنا به وبصقنا
عليه وأهملنا أقواله. وهكذا تضيع علينا وجهة نظر هامة كان الأجدر بنا أن نهتم بها
وننتفع بما فيها من عبرة. والواقع
أن الذي يريد أن يرقى إلى
منزلة رفيعة وهو غير موهوب بالصفات التي تؤهله لها يؤذي نفسه أكثر مما ينفعها. إن
الإرادة وحدها لا تكفي أبداً لنوال شيء، وربما كانت الإرادة عقبة في سبيل ذلك.
فالإنسان ليس بالآلة الطيعة التي يمكن توجيهها في أية ناحية نشاء. إن لكل نوع من أنواع النجاح
مؤهلات خاصة. وتلعب القوى النفسية الخارقة دوراً كبيراً في تكوين
هذه المؤهلات فمن أراد شيئاً وهو غير مستعد له نفسياً أساء إلى نفسه وإلى أمته
إساءة كبرى. إن الإرادة قد تعرقل سبيل النجاح أحياناً. وإلى أن الذي يستعمل
إرادته في كل الأمور قد يسيء إلى نفسه من حيث لا يدري. إن هذه الحقيقة تسمى بقانون (كويه) أو قانون
الجهد المعكوس. ومن المؤسف أن نرى الشبان في هذه البلاد قد أغفلوا شأن هذا القانون
النفسي كل الإغفال، فبذروا كثيراً من جهودهم التي كان عليهم أن ينتفعوا بها. إن قانون
(كويه) بسيط في عبارته ولكنه هائل في أهميته العملية. إذا سيطرت فكرة على شخص بحيث
أصبحت متغلغلة في أغوار عقله الباطن فإن كل الجهود الواعية التي يبذلها ذلك الشخص
في مخالفة تلك الفكرة تؤدي إلى عكس النتيجة التي كان يبتغيها منها حين آمن بها أصبحت مخيلته ممتلئة بآمال النجاح وأوهام الفوز.
وبهذه الطريقة اتحدت إرادته ومخيلته في العمل فأنتجت له النتيجة المطلوبة. والواقع
أننا نخفق في أي عمل نقوم به إذا تعاكست في أذهاننا المخيلة والإرادة. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا بأن
الشخصية الناجحة هي التي تتخيل النجاح الذي تريده والأولى بالمربين أن يطبعوا خيال
النجاح في أذهان الأطفال بدلاً من أن يحرّضوهم على إرادة النجاح فينبغي أن يقولوا
لهم: «أنتم ناجحون عوضاً عن أن يقولوا لهم: كونوا ناجحين. إن سوء الحظ هو
عقدة نفسية. فسيئ الحظ هو
ذلك الذي يتخيل الخيبة والفشل في كل عمل يقوم به. فهو يريد النجاح ويحرص عليه
ويدأب في سبيله ولكنه في أعماق عقله الباطن يتصور الفشل ويمشي. إذن كالماشي
على الحبل وهو خائف من السقوط والغريب أن الأمهات في هذه البلاد تساعد مساعدة
فعّالة على تنمية مثل هذه العقدة في أذهان أطفالهن. فالأم عندنا قد تعودت أن تبكي
وتندب حظها في كل حين وهي بذلك توحي لولدها بعقيدة سوء الحظ من حيث لا تشعر. وهي
حين يظلمها زوجها ترجع إلى ولدها فتنفس فيه ما تشعر به من ألم أو حرمان. إن ما
تقوله الأم على مسمع من طفلها يعتبر من أشد أنواع الإيحاء قوة وأثراً في تكوين
أعماق شخصيته. وهي إذ تشكو دائماً من تصاريف الأيام وظلم الأنام تطبع في عقله صورة
سوداء لا تنمحي عن الحياة فتجعله متشائماً لا يأمل خيراً ولا ينتظر نجاحاً. إن
كلمة (الخائب) و(الخائبة) من أكثر الكلمات استعمالاً عند أمهاتنا فالأم تكرر هذه
الكلمة صباح مساء. وكثيراً ما تصفع ولدها قائلة له: «انظر يا خائب إلى ابن فلانة هو
يصعد وأنت تنزل ... إن حظي التاعس هو الذي جعلك خائباً لا تشابه أولاد الناس»
إن شعار المربين عندنا يدور
معظمه حول عبارة «كن ولا تكن» فهم يقولون للطفل: أنت لا تشابه أولاد الناس حتى
تكون مثلهم.
وهذه الطريقة تؤدي إلى الضرر
من ناحيتين: فهي تغرز في مخيلة الطفل صورة متشائمة عن نفسه من ناحية وهي تحرضه على
إرادة النجاح من الناحية الأخرى . وهو يصبح إذن ضحية من ضحايا قانون الجهد المعكوس يريد النجاح في عقله
الواعي بينما هو يريد الفشل في عقله الباطن
. يحكى أن والداً وبخ طفله
ذات يوم على تأخره في الدراسة قائلاً له: نابليون عندما كان في مثل سنك نجح إلى
الصف الخامس بينما أنت الآن في الصف الثاني من المدرسة فأجابه طفله على البديهة:
ولكن نابليون يا أبت عندما كان في مثل سنك أصبح إمبراطورا». لا مراء أن
جواب هذا الطفل أقرب إلى الحقيقة من سؤال أبيه وأن شر ما يفعله المربون عندنا هو
أن يذكروا الأطفال بأقرانهم أو يحرضوهم على التشبه بهم. إن كل فرد في الواقع مخلوق
على طراز خاص به. وهو إذن لا يستطيع مهما حاول أن يكون مثل الغير تماماً.. فكل طفل مهيّأ لأن يختص في
ناحية معينة من نواحي الحضارة وأن يساهم في إنتاج التراث الاجتماعي حسب مقدرته.
ولذا كان من الواجب على الآباء أن يراقبوا أبناءهم بدقة أثناء نموهم حتى يكتشفوا
المجال الذي يصلح لهم ويصلحون له فيساعدونهم فيه
. إن الذين يحرّضون أبناءهم
على تقليد الغير هم في الحقيقة بدو قد ارتدوا رداء المتمدنين. فالمجتمع البدوي لا
يقوم على تنوع الاختصاص إلا قليلاً إذ هو مجتمع غزو وسلب ونهب والحياة البدوية
منصبة في معظمها على تمجيد الشجاعة والكرم فالبدوي ينهب الناس من جهة ليبذل ما سلب
على ضيوفه من جهة أخرى. ولهذا أصبح من الضروري على الوالد البدوي أن يحرض ولده على
تقليد غيره. فثمة اختصاص واحد ينبغي على أفراد القبيلة جميعاً أن يحذقوه. ومن يفشل
فيه فقد حق له أن يبتئس وأن له أن يفنى في ذلك المعترك الصحراوي العنيف. يمكن
اعتبار الصحراء بمثابة الغربال إذ لا يبقى فيه إلا من كان قوياً جلداً يأكل ولا
يؤكل وهي كذلك مصنع ينتج نوعاً واحداً من البشر. هم الأبطال الكرام. فالطفل البدوي
إذن مضطر أن يكون بطلاً كريماً أو يموت حيث يأكله غيره من الأبطال الكرام . إن المجتمع المتمدن هو على
النقيض من ذلك محتاج إلى جهود كل فرد ضعيفاً كان أم قوياً فكل فرد له مجاله الذي
يستطيع أن ينتج فيه شيئاً واختصاصه الذي يبرع فيه
. وباختصار نقول: إن الطريقة
البدوية في تربية أبناء المدينة تؤدي إلى إنتاج جيل فيه كثير من العقد النفسية.
وهذا هو بعض ما نشكو منه في مجتمعنا الحديث. لقد اعتدنا أن نتخوف من ذكر النعمة على شتى
صورها وهذه العادة لها أسبابها الاجتماعية والنفسية التي توفرت في حضارتنا الشرقية
أكثر مما توفرت. في أية حضارة أخرى. وقد انتشرت لذلك بيننا عقيدة الحظ وكثر أصحاب
الحظوظ السيئة في صفوفنا. والغريب أن
حضارتنا حين تجعلنا نتخيل الفشل، تعوّدنا على أن نهمل النجاح الذي يأتينا عفواً من
غير مشقة. إن الذين يعتقدون
بأن النجاح على قدر المشقة قد لا يغتنمون الفرص ولعلهم لا يتصورون أنها فرص ثمينة
حين تمر بهم وذلك لسهولة منالها. فهم لا يقدّرون قيمتها إلا بعد فواتها وعند ذلك
يضربون يداً بيد متأسفين. وكثيراً ما يكون أنفع الأشياء هو ذلك الذي يكون أهونها
وأيسرها في وقت من الأوقات. إن يسره وسهولة مناله يجعل الإنسان لا يصدق أنه ثمين ونافع، سيما إذا كان معتاداً على أن لا يحصل على الشيء
الثمين إلا بعد مشقة. وعلى هذا المنوال تضيع الفرص على الناس. والدين الإسلامي قد
اصطبغ بصبغة المشقة في معظم شعائره.
لقد قال النبي محمد: جئتكم بالشريعة السمحاء. ولكن أتباعه نسوا
هذا وجعلوا دينه من أصعب الأديان وأكثرها تعباً ومكابدة ومشقة. فقد جعلوا الطقوس
الدينية دقيقة التفاصيل معقدة الأجزاء وهم لا يزالون يتباحثون ويتجادلون لكي يضعوا
ضغثاً على هذا. وقد أمسى المسلم الذي يريد أن يقوم بالطقوس الدينية حسب الأصول
مضطراً أن يترك أعماله لكي يستطيع أن يتفرغ لأفانين الوضوء والطهارة وشرائط الصوم والصلاة.
إن العبادة الحقة تنفع الفرد نفسياً. فهي تبعث الثقة والطمأنينة في قلب الإنسان
وتجعله متفائلاً يسير في الحياة وهو معتقد بأن هناك رباً يرعاه ويعينه على حلّ المشاكل.
هذا ولكن رجال الدين عندنا قللوا من هذه المنفعة النفسية التي يجنيها الفرد من
العبادة حين جعلوها محفوفة بالفروض والشروط الدقيقة . فالعابد الذي يعبد الله على
هذا المنوال لا يستطيع أن يتفرغ بقلبه لدعاء ربه واستمداد العون منه . ذلك لأنه
يكون أثناء العبادة مشغولاً بأداء التفاصيل المعقدة إذ هو يخشى أن يفوته منها شيء . وقد رأينا من المتعبدين من يقضي وقتاً طويلاً في الوضوء لكي
يقوم به على وجه الدقة المطلوبة ، وفي الصلاة لكي يؤديها كما ينبغي . وتراه أثناء
الصلاة يمط شفتيه ويلوي لسانه في كل حرف ينطق به لكي يخرجه من مخرجه المفروض -
وبهذا يضيع عليه معنى الصلاة ، ولا يبقى لديه منها غير الرسوم والحركات المجردة .
إن
هذه الحالة تؤدي عادة إلى ظهور عقدة نفسية لدى صاحبها تسمى بعقدة الاستكمال (Perfectionism) وهي ما يدعوها العامة
أحياناً بالوسواس . إن عقدة الاستكمال قد يصح أن
تسمى إرادة متحجرة فمنشؤها في أول أمرها محاولة الإنسان أن يجيد عمله وأن يقوم به
على الوجه المطلوب وكل إنسان في الواقع يريد أحياناً أن يستكمل العمل الذي يبدأ به.
ولكن هذه الإرادة قد تتحجر فتمسي عقدة نفسية، إذ يأخذ المصاب بها بالتدقيق الشديد
في كل عمل يقوم به بغض النظر عن الغاية التي يرجوها منه إنها عقدة نافعة إذا كانت
معتدلة ومبنية على أساس الروية والتبصر ولكن الإنسان مع الأسف يندر أن يسير في
أعماله على أساس الاعتدال والروية. فإذا اعتاد الإنسان على أن يدقق في عمله قد يصل
إلى حب التدقيق إلى درجة الإفراط. وتجده عند ذلك يدقق من أجل التدقيق ذاته وينسى
الهدف الذي يدقق في سبيله . إن هذه العقدة تعد من أكبر عوامل الفشل في الحياة. فصاحبها لا يستطيع أن
يقوم بعمل إلا بصعوبة. ذلك أنه ينظر ويعيد النظر في كل جزء مما يعمل وتراه يهمل
الاعتناء بالأصل في سبيل الاعتناء بالفروع أو هو ينسى الغاية ويهتم بالوسيلة ولكنه
يواصل القيام به رغم ذلك . إن هذه العقدة منتشرة في بلادنا انتشاراً فظيعاً ولعلي لا أغالي إذا قلت إن
من أهم العوامل التي أدّت إلى انتشارها في هذه البلاد هي: هي تلك الدقة الشديدة
التي يحاول رجال الدين أن يلبسوا الطقوس الدينية بها فالطفل الذي ينشأ على التزمت في
الدين ويتعود على الدقة في القيام بطقوسه يمسي تربة خصبة لنمو هذه العقدة فيه. والواقع أن هذه العقدة أكثر انتشاراً بين المتزمتين في الدين منها بين غيرهم.
وقد ينقلب بعض هؤلاء المتزمتين على الدين فيتركون الصوم والصلاة ولكن العقدة
تلاحقهم بالرغم من ذلك.
يقول المثل السائر: الوسواسي
نجس ومعنى ذلك أن الذي يتحرى الدقة الكاملة في الطهارة لا يستطيع الوصول إليها أبداً،
هو يطلبها دائماً فلا يجدها. فهو في شقاء متواصل يسعى وراء المستحيل . وفي الحقيقة إن الكمال في كل
شيء مستحيل. فمن طبيعة الحياة أن تكون ناقصة وكثيراً
ما يكون النقص أنفع
من الكمال للإنسان. إن الكمال أمر اعتباري فما هو كمال اليوم قد يصبح ناقصاً غداً.
ألف أحد الباحثين كتاباً وكان هذا الكتاب رائعاً في بعض أجزائه و رديئاً في الأجزاء الأخرى فسُئِل
في ذلك وقيل له: «لماذا لم تتحر الكمال في جميع أجزاء كتابك حيث كان الجدير بك أن
تحذف الجزء الرديء وتبقي على الجزء الحسن منه؟ فأجابهم: لو لم أكتب الجزء الرديء
منه لما استطعت أن أكتب الجزء الحسن. وقد أصاب الكاتب في هذا القول كبد الحقيقة
ذلك أنه لو كان يتحرى الكمال أثناء الكتابة كما كانوا يطلبون منه حيث لا يكتب إلا
ما هو حسن ورائع لأصيب بالجمود ولأخرج كتاباً فارغاً لا خير فيه فهو لو لم يجرؤ
على الخطأ ويستسهل النقص الذي ظهر للناس في بعض أجزاء الكتاب لما استطاع أن يصل إلى
الكمال في أجزائه الأخرى. ولذا قيل: إن الخطأ طريق الصواب فإذا كنت لا تتحمل ظهور
الخطأ والنقص في عملك كان عليك أن لا تنتظر ظهور الصواب والكمال فيه.
يقول (مارستون): أتيح لي منذ
وقت قريب أن أرى جراحاً يجري جراحة صعبة في المخ وكانت زلة طفيفة من يده كفيلة أن
يكون مؤداها الفالج أو الموت للمريض. ولم تكن براعته هي التي وقعت من نفسي بل
سكينته المدهشة. وكنت أعرف أنه كان مضطرباً قبل ذلك بلحظات ولكنه ما كاد يقف أمام
طاولة العمليات حتى راح يعمل بإحكام دقيق أذهلني إن هذا الجراح المطمئن قد يخطئ أحياناً،
وليس في الوجود شخص لا يخطئ بتاتاً. هذا ولكن احتمال خطئه وهو ساكن مطمئن أقل جداً
من احتمال خطئه وهو يدقق ويحقق ويتحرى الكمال في كل حركة يقوم بها. وربما صح القول:
إن نسبة خطئه تقل بمقدار ما يعظم انغماره في العمل ويشتد انهماكه فيه. وبعبارة أخرى:
إنه كلما حاول تجنب الخطأ كثر خطأه، وكلما أراد الدقة ابتعد عنها. يقول (جيمس): إن
الفرق بين العباقرة وغيرهم من الناس العاديين ليس مرجعه إلى صفة أو موهبة فطرية في
العقل بل إلى الموضوعات والغايات التي يوجهون إليها هممهم وإلى درجة التركيز التي
يسعهم أن يبلغوها.
فالمبدع هو الذي ينغمر في
عمله ويذوب فيه. إنه لا يريد أن ينجح في عمله، ولا يقصد الكمال في أدائه، فهو حين
يعمل لا يشعر بنفسه ولا يحس أن له قصداً يسعى وراءه. إنه يصبح أثناء العمل جزء من العمل،
فهو يسير فيه منساباً على سليقته، وإذا ذاك يتسلم العقل الباطن زمام الأمر فيقوده
إلى الغاية المنشودة من حيث لا يدري
إن العقل الظاهر مناقض في عمله للعقل
الباطن كما سيأتي بيانه بالتفصيل في الفصل التالي. ولهذا السبب نجد أن أحد هذين
العقلين لا يستطيع أن يعمل أو ينتج في الوقت الذي يكون فيه العقل الآخر عاملاً ـ
فلا بد لعمل أحدهما من خمود الآخر. و مشكلة الإنسان إنه إذا اعتاد على نمط معيّن
من السلوك فإن من الصعب عليه أن يغيّره متى أراد فهو إذا اعتاد أن يستعمل عقله
الظاهر ويلجأ إليه في حلّ المشاكل صعب عليه أن يستفيد من حوادس عقله الباطن. وكذلك
يصعب عليه أن يترك الحرص والإرادة عند الحاجة إذا كان متعوداً عليهما في شؤون
حياته الأخرى.
وهنا تظهر مزية العبقرية وسبب تفوقه على غيره فالعبقري نادر شاذ إذ هو يستطيع أن يكون قوي الإرادة وشديد العزم متى شاء، وأن يكون كسولاً متراخياً عند الحاجة إن الإبداع الفكري يحتاج كما لا يخفى إلى أن يمر في مرحلتين هما مرحلة الخزن ومرحلة الاجترار حيث يجمع به المعلومات اللازمة فيخزنها في عقله الباطن لتختمر فيه وتنضج. وهذه هي ما نسميها بمرحلة الخزن. فإذا اجتاز المفكر هذه المرحلة، لجأ إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة الاجترار حيث تراه قد جلس بعيداً، كالبقرة التي تجتر ما خزنت في كرشها من طعام غير مهضوم وأخذ سادراً في خيالات تشبه أحلام اليقظة. إنه يترك عقله خيالاته كما يشاء. وحينئذ تنبعث لديه معظم أفكار يسبح الباطن آنذاك هائماً في الإبداع والابتكار والاختراع. فالماهر تراه دؤوباً كادحاً حين يتمرن على فنه ويتعلم مبادئه ولكنه عند الإنتاج ينسى نفسه وينغمر في عمله ويصبح آنذاك كالحالم الذي لا وعي له ولا إرادة.
ـــ خوارق اللاشعور ــــ
لم تلقَ فكرة من الرواج
والانتشار في هذا القرن مثلما لقيته فكرة اللاشعور أو العقل الباطن. وقد أصبح حتى
الذين ينكرون وجود هذا العقل لا يستطيعون أن ينكروا وجود بعض القوى الكامنة في
أغوار النفس حيث تسير الإنسان وتؤثر في سلوكه من حيث لا يشعر .قد لا نخطئ إذا صنّفنا الذين يؤمنون بوجود
العقل الباطن إلى فريقين:
الفريق الأول: هم أتباع مدرسة التحليل النفسي، يعتقدون بأن العقل الباطن مكمن الرغبات
المكبوتة التي لم يستطع الإنسان إشباعها لسبب من الأسباب. وهذه الرغبات تبقى في
نظرهم محبوسة في العقل الباطن. فإذا تخدّر هذا العقل أو ضعف أو غفل أو نام وجدت
الرغبات المكبوتة في ذلك فرصة سانحة للخروج من حبسها فتظهر فيه هذه الرغبات
المكبوتة في مجال الأحلام.
الفريق الآخر: فيعتقدون بأن العقل الباطن هو مهبط الوحي والكشف والإلهام في الإنسان، وهو
منبع العبقرية والنبوة والاختراع وما أشبه. وقد تطرف بعضهم فذهب إلى أن العقل
الباطن هو الروح. أو هو في رأي آخرين منهم جزء الله الذي حل في الإنسان.
ونحن نلاحظ في رأي هذا الفريق شيئاً من
الابتعاد عن الروح العلمية. فهم يعتبرون خوارق اللاشعور دليلاً على وجود عالم آخر
غير هذا العالم الذي نعيش فيه. والواقع أن إدخال الأمور الغيبية في مثل هذه البحوث
يقلل من قيمتها العلمية فنحن ما دمنا نستطيع أن نعلل تلك الخوارق تعليلاً مقبولاً
في ضوء الأبحاث الطبيعية والفلسفية الحديثة فلا حاجة لنا إذن بتلويثها بأفكار
تقليدية لم يبت فيها العلم بعد.
إن القوى النفسية الخارقة أصبحت اليوم كما أسلفنا، من الحقائق العلمية
المقررة وقد أخذت التجارب المختبرية تؤيدها تأييداً لا بأس به. لقد ظهر، إزاء
هؤلاء، باحثون آخرون يقولون بأننا يجب أن نسير مع البحث العلمي أينما توجه بنا سواء
في ذلك أرجع بنا إلى الأفكار القديمة أم فتح لنا طريقاً جديداً إن العلم في رأيهم
هو نبراسنا الذي ينبغي أن نستضيء به وليس من اللائق بطالب العلم أن يتعصب في سبيل
فكرة معينة أو يتعصب ضدها ثم يخاف منها
.وقد اتخذ البحث العلمي في موضوع القوى
الخارقة طريقتين: الطريقة الأولى منها هي التي سار عليها الباحثون في إنكلترا
وتابعهم على ذلك جماعات متعددة في أقطار أخرى وتتلخص هذه الطريقة في الاعتناء بجمع
الوثائق عن كل حادثة يظهر فيها عمل خارق حيث أرسلوا إليه ملاحظين ممن تتوفر فيهم
النزاهة والصدق والحياد ودقة الملاحظة. فيقوم أولئك الملاحظون بدراسة الخوارق التي
يقوم بها ذلك الشخص الموهوب ويضعونه تحت المراقبة الدقيقة ثم يقدمون عنه تقريراً
بما شاهدوه. وقد تألفت لهذا الغرض جمعية في بريطانيا منذ سنة 1882، سميت بجمعية
المباحث النفسية. إن الهدف الأول لهذه الجمعية هي البت في أمر هذه الأخبار التي
يتناقلها الناس في كل زمان ومكان ووضعها تحت مشرط العلم الذي لا يتطرق إليه الشك. وقد
كان لنجاح هذه الجمعية صداه في أنحاء العالم فأسست فروع لها في أقطار أخرى كفرنسا
وأمريكا وهولندا والدانمارك والنروج وبولندا وغيرها
ونحن نتمنى أن يؤسس فرع لها في العراق. ففي
هذا البلد نسمع عن كثير من الخوارق، وطالما استهزأنا بها. ونحن نريد أن نضع حداً
لهذا النزاع العقيم بين من يصدق بها ويكذبها ولعلنا نعثر من بين هذه الأكوام
المليئة بالكذب على قسط صغير من الحقيقة قد يكون له شأن كبير في تفكيرنا العلمي. لقد
توصلت جمعيات المباحث النفسية في بريطانيا وغيرها إلى أن لدى الإنسان ملكات نفسية
خارقة أهمها ثلاث وهي: تناقل الأفكار. ورؤية الأشياء من وراء حاجز. والتنبؤ. يروي البروفسور راين قصة حلم عجيب وهو يؤكد صحة هذه القصة ويعتمد على صدق
من رواها له فيقول: إن سيدة رأت في المنام أخاها وهو يدخل بيته ثم يدخل حصانيه في
الإصطبل فيحل أربطتهما ويذهب بعد ذلك إلى مخزن العلف فيخرج مسدسه ويطلقه على نفسه.
وقد رأته في الحلم بوضوح وهو يتدحرج ميتاً لا حراك به وقد سقط المسدس من يده. وقد
استيقظت السيدة مذعورة حيث أصرّت على زوجها أن يركب عربته ليذهب بها إلى بيت أخيها
وكان بعيداً عن بيتها ولقد دهشت السيدة كل الدهشة حين رأت جسد أخيها مطروحاً في
المكان نفسه الذي رأته الحلم، والمسدس ساقط بجانبه على النمط الذي حلمت به. إن هذه
القصة، إن صدقت لا يمكن أن تكون من جراء مصادفة فإن التفاصيل التي حلمت بها السيدة
ثم رأتها بعد ذلك واقعة هي متعددة ومعقدة، وليس من السهل أن تجتمع كلها في الحلم
وفي الواقع في وقت واحد. إن تعليلها بالصدفة أصعب جداً من تعليلها بالقوى النفسية
على أي حال. إن هذه القصة وغيرها حرّضت البروفسور (راين) على أن يؤسس فرعاً غي
الجامعة التي كان يدرس فيها. لبحث هذه الظواهر العجيبة ولوضعها على بساط التجريب
والاختبار العلمي. لقد
سمى (راین) بحثه الآنف الذكر بعلم النفس الهامشي وقد أسس له مختبرات علمية منظمة،
وجمع له مساعدين أكفاء.
إن طريقة (راين) تختلف عن طريقة جمعيات المباحث النفسية في كونها لا تهتم
بأولي المواهب الخارقة كثيراً كما تهتم بهم تلك الجمعيات. إن (راين) يريد أن يفحص
الفرد العادي ومعدل ما لديه من قدرة خارقة. تقول جميعات المباحث النفسية إن المواهب الخارقة
هي كعيون النفط ومناجم المعادن، إذ هي لا تتوفر إلا في افراد قلائل، ولذا وجب
علينا أن نبحث عن هؤلاء الأفراد كما تبحث شركات الاستثمار عن الأماكن التي تكثر
فيها عروق المعادن. أما (راين) فيريد أن يكتشف أغوار النفس البشرية. إن التجارب
المتعددة التي أجراها (راين) وغيره دلت على أن الإنسان يملك في الغالب قدرة على
الحدس بمعدل يفوق معدل الصدفة قليلاً أو كثيراً. ولتلخيص ما سبق نقول: إن الباحثين يسيرون في هذا
الموضوع على طريقتي:
الأولى منها هي طريقة فحص الوقائع والتثبت من صدق شهودها وجمع الوثائق عنها. وهذه
الطريقة هي ما سارت عليه جمعيات المباحث النفسية في مختلف أنحاء العالم.
الثانية هي طريقة البروفسور (راين) وأتباعه، وهي تجري على أساس
التجريب والإحصاء. وقد أخذت تنتشر في بعض الجامعات.
إن المشكلة تنحصر اليوم، ليس
في تكذيبنا أو تصديقنا بهذه الظاهرة الخارقة، بل في قلة معرفتنا بطبيعتها.
فالباحثون اليوم لا يشكون في وجودها، ولكنهم لا يعرفون ماهيتها والقوانين التي
تسير عليها معرفة تامة. لم
يصلوا حتى الآن إلى ما يمكن الاعتماد عليه اعتماداً كبيراً. إنهم يريدون تعليلها
تعليلاً طبيعياً منسجماً مع القواعد العلمية التي يسيرون عليها في أبحاثهم الأخرى.
فإذا قالوا مثلاً بأن هذه الظاهرة الخارقة مصدرها الروح فإن ذلك معناه الوقوف في
بحوثهم عند هذا الحد وقد فشل
الأوائل في بحوثهم حين فسروا الظواهر الغامضة بتفسير غامض مثلها ووقفوا عنده وقد اكتشفت الأبحاث الحديثة أنواعاً معيّنة من الأمواج الكهربائية تنطلق من
دماغ كل إنسان وهي تختلف في النوم عنها في اليقظة، وفي التفكير عنها في الذهول وفي
المرض عنها في الصحة وقد اخترع جهاز كهربائي خاص لتسجيل هذه الأمواج الدماغية.
ويذهب الدكتور (دايفس) إلى القول بأن كل فرد يطلق من رأسه أمواجاً دماغية خاصة به
دون غيره، أي إن الأمواج
الدماغية مثل بصمة الأصابع لا يتشابه فيها اثنان من البشر ويسهل كذلك أن نتصور
الفضاء المحيط بنا مملوءاً بمختلف أنواع الأمواج، إذ هي تؤثر فينا تأثيرات
مختلفة من حيث لا نعلم فالناس من هذه الناحية إذن فريقان: فريق تستلين له الحياة
ويستجيب له الناس وهو سادر مستغرق لا يبالي وفريق آخر يجالد ويكافح فتصعب عليه
الحياة بمقدار ما جالد وكافح. قلنا إن عدداً كبيراً من الباحثين يميلون إلى تفسير
الإحساس الخارق بوجود أمواج أو ذبذبات خفية يتأثر بها الإنسان من حيث لا يشعر. وقد
جُوبِه هذا التفسير على كل حال باعتراضات عديدة. وربما كان أهم تلك الاعتراضات
الاعتراضان التاليان:
الأول: لقد اكتشف الباحثون أن الإحساس الخارق لا يتأثر
بالمسافة. فقد يقرأ الموهوب فكر غيره وهو قريب منه ولكنه يبقى قادراً على ذلك حين
يبتعد عنه. وقد ظهر من بعض تجارب (راين) أن الإنسان قد يستشف الأشياء المغيبة من
بعيد أوضح مما يستشفها عن قرب. وهذه الحقيقة تنافي فرضية الأمواج، ذلك لأن الأمواج
الكهربائية تضعف كلما طالت المسافة، وقوتها تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة
- كما هو معلوم.
الثاني:
ولقد أظهرت الأبحاث العلمية أيضاً أن
الإحساس الخارق قادر على التنبؤ أحياناً عن بعض حوادث المستقبل وهذه الحقيقة تنافي
فرضية الأمواج أيضاً، حيث لا يستطيع الإنسان أن يتصور أمواجاً صادرة عن حدث لم
يحدث بعد أو شيء لم يخلق وما ندري ماذا سوف يأتي به الغد عليه. إن هذين الاعتراضين
قويان حقاً، ولكنهما مع ذلك لا يخلوان من ضعف على وجه من الوجوه ولعل من الممكن ردهما.
فنحن اليوم لا نعرف عن طبيعة الإحساس الخارق شيئاً كثيراً حيث لا نزال في مفتتح
الطريق ولا ندري ماذا سيكشف لنا البحث في الأيام المقبلة من خفايا وأسرار في هذا السبيل.
وقد دلّت أبحاث (أينشتاين) أن الأمواج تسير في فضاء غير هذا الفضاء الذي نتصوره،
فنحن قد اعتدنا أن نتصور الفضاء فراغاً له أبعاد ثلاثة، بينما (أينشتاين) يقول:
بأن الفضاء له أبعاد أربعة هي: الطول والعرض والارتفاع والزمان. وهذا القول يؤدي
بنا إلى اعتبار الزمان بعداً في الفضاء لا يختلف عن الأبعاد الأخرى اختلافاً
جوهرياً ومعنى هذا أن التنبؤ عن حوادث المستقبل لا يختلف في جوهره عن. الإحساس
بأشياء موجودة في الوقت الحاضر، فالنفس البشرية التي تستطيع أن تخترق حاجز المسافة
المكانية تستطيع أيضاً أن تخترق حاجز المسافة الزمانية. إنها قد تبصر شيئاً
مختفياً عنها في ثنايا المستقبل بالسهولة نفسها التي تبصر بها شيئاً مغيباً عنها
في أحد الأبعاد الثلاثة الأخرى من الفضاء. إن هذا أمر لا نقدر على تصوره طبعاً
لأننا قد اعتدنا أن نتصور الزمان منفصلاً عن المكان ولكن الأبحاث الرياضية الجديدة
لا ترى في ذلك أية صعوبة فالزمان في نظرها امتداد في الفضاء كامتداد الطول والعرض
والارتفاع فيه والمسافة بين الماضي والمستقبل لا تختلف في صميم طبيعتها عن أية
مسافة معينة على سطح هذه الأرض مثلاً. فلا فرق إذن بين أن ينظر الإنسان نحو حوادث
الغد أو ينظر نحو حوادث أخرى تجري الآن في ناحية من نواحي البلد. وعلى هذا
الاعتبار فإن الزمان لا يسير، إنما هو واقف في مكانه. ونحن الذين نسير في الواقع،
حيث ننتقل من نقطة إلى أخرى على امتداد خط الزمان المديد. إن راكب القطار السريع
يتصور أحياناً، حين ينظر من النافذة، أن ما حوله يتحرك وهو واقف على هذا المنوال
يتصور الإنسان الزمان متحركاً بينما هو في الحقيقة ساكن. إن المستقبل لا يأتي إلينا
إنما نحن نذهب إليه، فهو ((هناك)) في نقطة من نقاط الزمان، ويستطيع الإنسان أن
يطلع عليه إذا كان موهوباً بموهبة الإحساس الخارق. تصور أيها القارئ أنك راكب في
زورق حيث تسير به نهر كثير الالتواء فأنت تستطيع أن تبصر الشاطئ نقطة بعد نقطة
أثناء سيرك البطيء تجاهه. هذا بينما راكب الطيارة الذي يطير بسرعة كبيرة فوق رأسك
قادر على رؤية ما تراه الآن وما سوف تراه في الساعات المقبلة أيضاً. فهو قادر على
اكتشاف المستقبل بالنسبة إليك وهو كلما زاد ارتفاعه كبرت قدرته على رؤية النقاط
البعيدة من المستقبل ... والماضي أيضاً.
يقول البروفسور (جينز) في هذا الصدد ما يلي:
قد يكون الزمن من أوله إلى
نهايته الأبدية ممتداً أمامنا في الصورة. ولكننا لا نتصل إلا بلحظة واحدة منه، كما
أن عجلة الدراجة لا تتصل إلا بنقطة واحدة من الأرض. إذن فالحوادث كما يقول فايل لا
تحدث، وكل ما الأمر أننا نمر بها مراً. فيكون وعينا في هذه الحالة كوعي ذبابة وقعت
في طلاسة تمر وفوق سطح الصورة؛ إن الصورة كلها كائنة في مكانها، ولكن الذبابة لا
تتأثر إلا بلحظة واحدة من الزمن، هي التي تتصل بها اتصالاً مباشراً، وإن كانت قد
تذكر جزءاً صغيراً مما وراءها من الصورة، وقد تخدع نفسها فتتصور أنها تساعد على
رسم أجزاء الصورة التي تمتد أمامها. وفي
الحقيقة إننا نشبه هذه المخلوقات بالنسبة للبعد الرابع الذي ندعوه بالزمان فنحن لا
نفهم من حقائق الكون إلا مقاطع معيّنة. فهذه الحقائق مؤلفة من أربعة أبعاد بينما
وعينا لا يتصل إلا بثلاثة منها. أما البعد الرابع فيمر علينا مراً كما تمر الأرض
تحت عجلة الدراجة فينظر الراكب عليها
ويبدو أن الأمواج الكهربائية على مختلف
أنواعها تتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد. إن هذه فرضية ضعيفة على كل حال، ولكن هناك من
القرائن ما يؤيدها تأييداً لا بأس به، أهمها ما يلي:
الأول: فقد وجد في الأبحاث
الفيزيائية الحديثة أن شعاع الضوء يظهر على شكل موجات تارة، وعلى شكل دفقات
متتالية كطلقات الرشاش تارة أخرى.
إن كل موجة من أمواج الضوء
تتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد، ونحن لا نرى منها أثناء التجربة إلا نقطة واحدة هي
القمة، أما النقاط الأخرى فتذهب مختفية في ثنايا الزمان الماضي أو المقبل.
الثاني: وقد وجد الباحثون أيضاً أن
(الإلكترون) يقفز داخل الذرة من مدار إلى آخر، ولا يلتزم مداراً ثابتاً وهو حين
يقفز من مدار إلى آخر، لا يمر بالمسافة التي تفصل بين المدارين. إنه يختفي من مدار
ليظهر في المدار الآخر فأين يذهب يا ترى أثناء القفز؟ يخيل لي أنه يذهب في البعد
الرابع أيضاً. وربما ذهب أثناء القفز سائحاً في زمان بعيد من الماضي أو المستقبل.
ومن يدرينا فلعله يتوغل في آلاف السنين الماضية أو المقبلة في لحظة واحدة ثم يرجع
إلى الزمان الحاضر ... كأنه لم يفعل شيئاً.
الثالث: وقد وجد الباحثون أيضاً بأن (الإلكترون) يسلك في تموجه داخل الذرة سلوكاً
غريباً ليس له سبب ولا يضبطه قانون. فهو لا يسير في مدار يمكن تحديده. فهي تسير
سيراً كيفياً كأنها تملك مشيئة ذاتية أو إرادة حرة. وما هذه القوانين الطبيعية
التي نشاهدها في الكون
ومما يلفت النظر في هذا الموضوع أن هناك
عدداً من العلماء يفسرون هذه الحركة العشوائية في سير (الإلكترون) بأنها ناتجة من
قصورنا عن مراقبة حركته مراقبة صحيحة. ذلك أننا في نظر هؤلاء العلماء، نراقب ظل
الإلكترون فقط ولا نستطيع أن نراقبه نفسه إذ هو يتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد. أي
إنه يشمل بحركته بعد الزمان. أما نحن فلا نرى حركته إلا من خلال أبعادنا الثلاثة. يتضح
من هذا أن ما يبدو لنا من فوضى في سير (الإلكترون)، إنما هي فوضى في عقولنا. ولعل
الأسباب التي تتحكم في سير (الإلكترون) موجودة في البعد الرابع حيث لا نستطيع أن نراها.
وقد يؤدي هذا بنا إلى القول بأن الأسباب التي تحرك الكون كله كامنة في الزمان
الماضي أو المقبل و(الإلكترون) إذن يتحرك بحافز يأتيه من وقت آخر غير هذا الوقت
الذي نعيش فيه. إن
هذه فرضية ضعيفة كما قلنا، ولكننا لا نجد مع ذلك صعوبة في قبولها بناء على ما جاء
أينشتاين به من مفهوم جديد للزمان والمكان. وهو كما لا يخفى من أهم دعائم الانقلاب
الراهن في كيان الفيزياء الحديثة
وبناء على هذا فإن التنبؤ بحوادث المستقبل
ليس أمراً مستحيلا. إن الأمواج الخفية التي تساعد على الإحساس الخارق لا يصعب
عليها أن تتصل بالمستقبل وتكتشف ما يحدث فيه. فهي تتحرك في كون ليس فيه مستقبل ولا
ماض وكل ما حدث أو سيحدث هو موجود «هناك» في ناحية من هذا الكون العجيب. وهنا قد يسأل
سائل فيقول: ما هي صلة هذه الأمواج الخفية بموضوع العقل الباطن الذي نحن فيه؟ والجواب على ذلك. أن نذكر القارئ بما قلناه سابقاً عن ماهية العقل الباطن
كما نفهمه. فنحن لا نعتبر العقل الباطن جهازاً نفسياً معيناً له خصائصه ووظيفته
الخاصة به. نقصد به مجموع الرغبات المكبوتة والحوادس الخارقة معاً. فكلا هذين
النوعين من الحوافز ينبعث من أغوار النفس بدون أن يشعر به الإنسان. إن المستر
(وليم مارستون) حين نصح القُراء بأن يطيعوا خواطرهم الآنية، إنما كان يخاطب بذلك
قُراء البلاد الغربية. فالحضارة الغربية تساعد الفرد نوعاً ما على تنمية شخصية
خالية من العقد. إن الرغبات الفردية والاجتماعية قد لا تجد هناك كبتاً على منوال
ما هو موجود عندنا في الشرق. فالفرد قد يفتح عينه للحياة وهو مطمئن بعض الاطمئنان
من النواحي الجنسية أو المعاشية أو الاعتبارية، ولذا يصبح لاشعوره أنقى وأقدر على
الإبداع من لا شعور الفرد الشرقي. إن حضارتنا الشرقية فيها
كثير من العوامل التي تؤدي إلى كبت الرغبات وتنمية العقد النفسية في الفرد. إن مجتمعنا اللئيم يخلق أسباب الفقر والعاهة من جهة ثم يحتقر المصابين
بهما من الجهة الأخرى. وبذا ينمي فيهم عقداً نفسية لا خلاص منها. فالفرد منا قد
يشترك في مجلس من مجالس الوقار والنفوذ، كمجلس نواب، أو مجلس أساتذة أو مجلس شركة أو مجلس قبول أو ما أشبه. وهو قد يجد نفسه آنذاك حائراً لا
يدري أيتكلم أم يسكت. فالكلام قد يكون أحياناً من فضة، وأحياناً من فحم إنه يشعر
آنذاك بحوافز متنوعة تحفّزه نحو الكلام تارة ونحو السكوت تارة أخرى، وهو لا يدري
أية واحدة من هذه الحوافز وسوسة وأية واحدة إلهام إني لا أستطيع أن أعطي القارئ
هنا قاعدة عامة يسير عليها في مثل هذه المواقف الحرجة، هذا، ولكني مع ذلك أقول
بتحفظ: إن الفرد الذي يفحص حوافزه المتنوعة ثم ينتقي منها ما هو ادعى للإخلاص
وأنفع للناس هو الذي يفوز بالنجاح في الأمد الطويل. فأنت إذا وجدت نفسك تريد
الكلام وكان الدافع الذي يدفعك إليه هو الحصول على تقدير الحاضرين أو التقرب من
أصحاب النفوذ منهم أو ما إلى ذلك فاعلم أنك فاشل عاجلاً أو آجلاً. إن حوادث
اللاشعور لا تنبعث إلا من نفس صافية مطمئنة. فينبغي عليك ألا تنتظر منها خيراً إذا
كنت تريد بها إشباع إحدى رغباتك المكبوتة. لقد حدث ذات يوم أن أعلن غني مشهور من أغنياء
بريطانيا: أنه قد وضع ورقة نقدية قيمتها ألف جنيه داخل مظروف، ووعد أن يهبها لمن يستطيع.
أن يخبر عن رقم تلك الورقة حدساً. وقد ظلت الورقة عند صاحبها مدة طويلة حيث لم
يوفق أحد للفوز بها. وقد اتخذ الكُتّاب في بريطانيا ذلك دليلاً قاطعاً على كذب
الإحساس الخارق الذي يدعيه بعض الأفراد. يعلق (سينل) على هذه الحادثة بقوله: إن
الأمل في الحصول على ورقة قيمتها ألف جنيه يبعث في الإنسان الحرص والتفكير الشديد.
وهذا التفكير الشديد لا يدع مجالاً له كي يوجه ذهنه نحو الورقة فيكتشف رقمها مهما
كان موهوباً. ومعنى هذا: إن الإنسان ما دام يريد شيئاً ويفكر في سبيل الحصول عليه
فإنه لا يستطيع أن يستخدم فيه عقله الباطن استخداماً مجدياً. ولربما صح القول بأن
الإرادة والإلهام لا يجتمعان فكلما
اشتدت إرادتك ضعف إلهامك. فأنت لا تنجح في استثمار العقل الباطن إلا حين تكون
منهمكاً في أمر لا تقصد من ورائه غرضاً مؤقتاً ولا تبتغي شهرة أو مالاً أو نفوذاً.
إن (سينل) يشترط، لكي تقوم الحادسة بنشاطها الخارق في الإنسان، أن تقف حركة المخ
بصفة مؤقتة، بحيث تكون بمثابة الصفحة البيضاء». وعندئذ يصير المخ، في نظر (سينل)
شبيهاً بالمذياع الذي يدار مفتاحه بدقة نحو محطة من المحطات فلا يلتقط أمواجاً من غيرها.
لقد فقد الإنسان الحديث نعمة الإيمان والعقيدة الراسخة فهو الآن يفكر ويتفلسف أكثر
مما يصدق ويؤمن. ولذا ضاعت من يديه قوى جبارة جداً - قوى العقل الباطن وحوادسه
الخارقة لا نكران أنه يستطيع أن يستثمر عقله الباطن بواسطة الإيحاء والتكرار، ولكن
هذا الاستثمار ضعيف بالنسبة إلى ما كان يجنيه جده القديم من خوارق الإيمان.
نذكر قصة أخرى. توهمت سيدة أن عظم سمك قد وقف في حنجرتها وهو سوف يقتلها. وقد أجمع الأطباء على عدم وجود عظم السمك في حنجرتها فلم تصدقهم. ثم أوشكت أن تموت فعلاً لو لم يأتها طبيب من نوع جديد فقد أمسك هذا الطبيب ملقطاً وأخفى فيه عظم سمك صغير ثم أدخله في بلعومها وأخرجه بعد هنيهة صارخاً: انظري.. لقد أخرجت عظم السمك من حنجرتك أخيراً» فشفيت السيدة إثر ذلك شفاءً تاماً. إن العقل الباطن لا يعرف البرهان المنطقي ولا يستفيد منه. ولا ينفع في. العقل الباطن إلا تكرار الفكرة التي لا جدال فيها ولا ريب، ولهذا كثر نجاح البلهاء في الأمور التي تحتاج إلى الثقة ولا تحتاج إلى التفكير والتدبير. لقد ربحنا في حياتنا المدنية الجديدة من ناحية وخسرنا من ناحية. فلقد تقدمت لدينا أساليب الحياة المادية تقدماً عظيماً بينما تأخرت فينا أساليب النفس وطرق استثمار قواها الخارقة. فنحن اليوم نستعمل أعظم أنواع العلاج المادي وأعجب المخترعات والمبتكرات، ولكننا ضيعنا تلك العقيدة الراسخة التي تزلزل الجبال. لقد نمت فينا قوى العقل الظاهر وتقلصت قوى العقل الباطن فاستخدمنا خوارق المادة وأهملنا خوارق اللاشعور.
ــــ النفس والمادة ــــ
لقد أثيرت منذ أيام (ديكارت)
في القرن السابع عشر مشكلة فلسفية كبرى هي مشكلة الفكر والبدن أو بعبارة أخرى
مشكلة التفاعل بين القوى النفسية والقوى المادية.
إن مما لا ريب فيه أن الفكر
يؤثر في البدن والبدن يؤثر في الفكر. فلا يكاد الإنسان يخجل من شيء حتى تحمرّ
وجنتاه ولا يبتئس لحادث حتى يمرض أو يظهر الضعف والشحوب عليه. ولقد نُوّم أحد
الأشخاص تنويماً مغناطيسياً ثم أخبر أثناء التنويم كذلك بأن جمرة ملتهبة قد وضعت
على يده فظهرت آثار الاحتراق والتقيح على جلدة يده كأن ناراً حقيقية قد مستها. والفكر
قد يتأثر بالمادة على المنوال نفسه الذي يؤثر فيها، فالإنسان حين يتناول شراباً مسكراً
أو منعشاً أو مخدراً تجد أفكاره قد تغيرت تبعاً لنوع المادة التي تناولها. وعلى
هذا قس كثيراً من الوقائع التي نلاحظها في أنفسنا وفي غيرنا في حياتنا اليومية.
ومن الغرائب التي شاهدتها في
هذا الخصوص حادثة حدثت قبل عشر سنوات تقريباً ولا أزال أتذكرها متعجباً. فقد أقيمت
في جامعة بيروت الأمريكية حفلة كبيرة حضرها منوّم مغناطيسي مشهور. ومن جملة ما قام
به هذا المنوم أنه أعطى كرات معدنية باردة إلى عدد من الحاضرين ثم أخذ إليهم بصوت عال:
إنها ساخنة ... إنها ساخنة فأخذت الكرات تسخن في أيديهم فعلاً حتى رماها معظمهم
إلى الأرض لشدة حرارتها وهم ينفخون في راحات أكفهم من شدة الألم.
وبقي واحد منهم أصرّ على
إبقاء الكرة في يده، وأخذ ينقل الكرة من يد إلى يد بغية تخفيف ألمها. وعندما رماها أخيراً بدت
على راحة كفه علامات الاحتراق. إن الكرة لم تسخن في الواقع إنما الذي سخن هو جلد اليد
وذلك من جراء الإيحاء ... وليس هذا بعجيب فإن الإنسان كثيراً ما يتخيل المرض
فيمرض، ويتوهم الألم في مكان ما من جسمه فيحدث الألم هناك فعلاً. وقد ظهر في شتاء
إحدى السنوات وفي حديقة (الهايدبارك) بلندن. فقير هندي عاري البدن يكاد لا يحس
بزمهرير الشتاء، وأخذ يقوم: بأعمال خارقة. فهو كان يبتلع حطام الزجاج والمسامير
الصغيرة الحادة وغيرها. ويشرب حامض النتريك هنيئاً، ويمشي حافياً على الجمر
الملتهب. وقد يدفنونه تحت التراب عدة ساعات ثم يخرجونه حياً كأن لم يكن قد حدث
عليه شيء. إن
هذه الخوارق كلها تدخل في موضوع تأثير الفكر في البدن وهي في الواقع ناتجة عن
سيطرة عقيدة معيّنة على بدن الإنسان. فالفقير الهندي حين يمشي على النار إنما هو
معتقد اعتقاداً جازماً بأن النار لا تؤذيه. إن هذه العقيدة قد استحوذت على ذهنه
استحواذاً تاماً بحيث أصبح في شبه غيبوبة عن ما حوله. فمجرد شك بسيط يخامر نفسه
يؤدي حتماً إلى هلاكه. ولا
مراء أن هذه العقيدة الجازمة الخالية من كل شك ليست بالأمر الهين ولا يستطيع أن
يحصل عليها أي إنسان إذ هي عقيدة عميقة لها جذورها القوية في أغوار اللاشعور ولا
يكفي الإنسان فيها أن ينوي ويعزم أو يقصد ويتعمد. إن العقيدة في الواقع ليست بيد الإنسان وهو لا
يستطيع أن يحصل عليها أو يتركها كما يريد إنها قناعة لاشعورية تأتي نتيجة الإيمان
القوي والمراس الطويل والانغمار الذي لا يخامره شك أبداً .
إن العقيدة التي تكون في العقل الظاهر فلا تتغلغل إلى العقل الباطن قد تضر ضرراً
بليغاً من هذه الناحية. وهي ربما أدت إلى عكس النتيجة المبتغاة منها. إن صاحب هذه
العقيدة السطحية لا يكاد يضع قدمه على النار اقتداء بفقراء الهنود، مثلاً، حتى
يأخذ عقله الباطن بالتخوف والاستغاثة. فهو يقول لنفسه: أقدم ولا تخف، ولكن عقله
الباطن يهمس في أغوار النفس بهمسات الخطر ودنو الأجل. يعلل العلماء خوارق المتصوفة والهنود بأنها نوع
من التنويم الذاتي.
فالمتصوف ينوّم نفسه قبل أن
يقوم بتلك الخوارق. والهنود يختلفون في الطريقة التي ينومون بها أنفسهم تنويماً ذاتياً.
فالهنود يروضون أنفسهم رياضيات نفسية معقدة وطويلة الأمد حتى يصلوا أخيراً إلى
مرحلة القدرة على القيام بالخوارق. وعند وصولهم إلى تلك المرحلة النهائية يصبحون
كأنهم خرجوا من هذه الدنيا وأخذوا يعيشون في دنيا خاصة بهم، وتصبح الخوارق لديهم
آنذاك أعمالاً اعتيادية يستطيعون أن يقوموا بها متى شاؤوا إن خوارق المتصوفة إذن هي خوارق اللاشعور. وكلما قل وعي المتصوف أثناء
القيام بها قل الخطر عليه منها يعتقد المتصوفة أن هذه الخوارق التي يقومون بها آتية من صحة عقيدتهم
والواقع أنها آتية من قوة عقيدتهم - لا صحتها. فقوة العقيدة وعمقها وتغلغلها في
اللاشعور هي التي تؤدي إلى ظهور الخوارق. أما صحة العقيدة فلا شأن لها في هذا
الأمر.
إن اللاشعور لا يعرف التمييز
بين الحق والباطل أو الصواب بین والخطأ. إن هذا من شأن العقل الظاهر أن يعرفه
فالعقل الباطن، كما قلنا سابقاً، هو عقل اليقين والعقيدة، بينما العقل الظاهر هو
عقل الشك والبحث والتفلسف فخوارق اللاشعور إذن لا تدل على صحة العقيدة بقدر ما تدل
على قوتها في النفس. والملاحظ
أن رجال الدين عندنا لا يوافقون على هذا الرأي فهم يتصورون الله كالملك جالساً على
العرش وحوله الملائكة وهو يأمر بينهم وينهى. إنهم أخذوا هذه الصورة من حياتهم
السياسية. فهم ينظرون إلى الله كما ينظرون إلى حاكمهم السياسي، إذ يحاولون أن
يتملقوا ويتزلفوا إليه أو يمدحوه ويــــبرطلوه. ولهذا السبب نجدهم يهتمون كل
الاهتمام بالشعائر والطقوس بدلاً من الاهتمام بصفاء القلب وسلامة العمل وخلوص
النية. ذكرنا
في الفصل السابق أن النفس البشرية قد تتأثر بما حولها من المادة الخارجية تأثراً
لا شعورياً. وفي هذا الفصل أدركنا كيف أن النفس تؤثر في مادة بدنها وتتأثر به
أيضاً بقي علينا أن نعرف بعد هذا، هل تستطيع النفس أن تؤثر في المادة الخارجية
بمثل ما تتأثر بها؟ إن هذا السؤال قد شغل أذهان المفكرين منذ زمان بعيد. وكثيراً
ما تروى الأخبار العجيبة عن مقدرة بعض الأنبياء والأولياء والسحرة على تحريك
المادة من بعيد أو التأثير فيها قليلاً أو كثيراً. وظل المفكرون حائرين إزاء هذه
الأخبار المتواترة لا يستطيعون لها تكذيباً ولا تصديقاً. ومعظم العلماء كانوا
يميلون إلى تكذيبها والسخرية منها حتى زمن متأخر.
وقد اتخذ (راين) في هذا السبيل طريقة خاصة به. فقد استعمل في تجاربه مكعب النرد المعروف. وكانت النتيجة التي جاء بها مدهشة حقاً. وهو يقول في هذا الصدد: «بعد سنوات من البحث الواسع... توصلنا إلى الاستنتاج أن بعض الأفراد يملكون مقدرة بسيطة على التأثير في رمي مكعب النرد. وقد أخذنا بعين الاعتبار طريقة رمي المكعب وكذلك شكله ودقة صنعه واستعملنا من أجل ذلك وسائل آلية متنوعة لرميه وقمنا بالاحتياطات اللازمة لكي يكون المكعب متوازناً كل التوازن عند سقوطه والغريب أن لاعبي القمار قد أدركوا هذه الحقيقة قبل أن يكتشفها (راین) بطريقته العلمية. فهم يشعرون أنهم في حالات معينة يستطيعون أن يؤثروا على سقوط المكعب سلباً أو إيجاباً. فهم يجدون أن أوجه المكعب تظهر على نمط يلائم مصالحهم تارة وتظهر على ما يعاكسها تارة أخرى. وهم يميلون إلى تعليل هذه الظاهرة الغريبة بتعليلات شتى تناسب مداركه إن (راين) قد توصل في هذا السبيل إلى نتيجة قاطعة. وهي أن النفس البشرية تستطيع أن تؤثر في المادة الخارجية بدون واسطة حسية، ولكنه يعترف في الوقت نفسه أن هذا التأثير ضعيف جداً إذ هو لا يفوق معدل الصدفة إلا بمقدار قليل يكاد لا يبين أحياناً. وهذا لا يعني طبعاً أن الناس كلهم سواء في هذا التأثير فلا ريب أنهم يختلفون قوة وضعفاً بالنسبة لما يملكون من تفاؤل وتلقائية واعتقاد يتبين مما سلف أن ليس هناك حدّ واضح بين الوهم والحقيقة والوهم كثيراً ما يؤدي إلى خلق الحقيقة. فأنت إذا توهمت شيئاً واعتقدت بوجوده كان بحكم الموجود في آثاره المختلفة. أما الحقيقة الموجودة فعلاً فقد لا تكون ذات أثر في الحياة العملية حين يجهل الإنسان وجودها ولا يعترف بها. إن من الممكن أن نقول مثلاً بأن (باستور) عند اكتشافه الميكروب قد خلقه خلقاً. فقد كان أجدادنا يجهلون الميكروب ولذا كان الميكروب، على معنى من المعاني غير موجود. أما بعد أن اكتشفه (باستور) فقد أصبح موجوداً وأخذ الناس يتخوفون منه وابتلي الكثير منهم من جراء ذلك بداء الوسواس. ومن المعروف أن الذي يخاف من مرض يقع فيه. فإن خوفه الدائم يجعل فكرة المرض قوية في نفسه، وبذلك تلقى جراثيم المرض في بدنه تربة خصبة للنمو والتكاثر. صرَّح أحد الأطباء المشهورين ذات يوم فقال: «إن مهمة الطبيب أن يساعد المريض على أن يشفي نفسه بنفسه. فالطب لا يشفي أحداً. إن مصدر الشفاء هو النفس، وليس للطبيب من عمل إلا أن يساعد النفس في تأثيرها». وأجرى الدكتور (دوراند) تجربة طريفة على مرضاه. فقدم لهم شراباً خالياً من أي دواء أو مادة طبية. وبعد مرور ربع ساعة وقف الدكتور بين مرضاه وهو يضرب يداً بيد متظاهراً بالأسف والحنق قائلاً بلهجة الاعتذار: إن ذلك الشراب كان مقيئاً وأنه قد أعطي لهم خطأ. هرج ومرج بين المرضى وأخذ بعضهم يتقيأون فعلاً يحاول دعاة الحقيقة في كل حين أن يكافحوا الأوهام بين الناس، وما دروا أن الوهم ربما كان أنفع الحقيقة أحياناً. فلو أن الإنسان عاش على الحقيقة وحدها لفني منذ زمان بعيد. إن الأوهام لها وظيفتها في كثير من الحضارات والمجتمعات. فهي كالدواء في البيئة التي لا دواء فيها وكالحجر الصحي بين أولئك الذين لم يعرفوا بعد حقيقة الأمراض ومصدرها الميكروبي. إن الإنسان قد يطلب الحقيقة أحياناً، ولكنه لا يستطيع أن يعثر عليها وهو مضطر إذن أن يخلق بأوهامه حقيقة خاصة به تعينه على حل مشاكل الحياة وبناءً على هذا فقد لجأ أجدادنا إلى الطلاسم والرقى والأدعية يعالجون بها أمراضهم. ونحن اليوم نضحك على خرافاتهم هذه ظلماً وعدواناً ـ غير عالمين بأن الطلاسم والأدعية، حين يعتقد بها المريض تنفع فيه أكثر مما ينفع الدواء المادي المشكوك في أمره. إن الاعتقاد يبعث الثقة في الإنسان ويوحي إليه بالنجاح والشفاء والطمأنينة، ولكنه في الوقت نفسه يمنعه من ممارسة الحياة ممارسة واقعية حكيمة ويجعله أميل إلى اعتناق السخافات والأباطيل منه إلى مواجهة الحقائق المرة إن الفطريين يختلفون عن المدنيين في إطارهم الفكري وفي طراز عقليتهم. فهم لا يفسرون الكون كما يفسره المدنيون، من حيث خضوعه لقواميس طبيعية ثابتة أو سيره حسب مبدأ السبب والنتيجة. إنهم بالأحرى يتخيلون الكون مليئاً بالأرواح من كل نوع وهذا ما يسمى اليوم بالنظرة «التشخيصية» في الكون. فالفطريون يعتقدون بأن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة سببها إرادة صادرة من روح معيّنة. والأرواح التي تسير الكون في نظرهم هي : كالأشخاص الذين يتألف المجتمع منهم ولذلك نراهم يسترضون الأرواح في كل عمل يقومون لكي لا تغضب عليهم وتسبب لهم الكوارث. فبينما المدنيون يحاولون حلّ مشاكلهم بالحلول العقلية والعلمية، نجد الفطريين يحلونها بأفانين السحر وأنواع التعاويذ والطلاسم وهم بذلك يخاطبون الأرواح ويتملقون إليها ويرجون منها دفع الضرر وجلب الخير. روى أحد السواح أنه كان يسكن ذات مرة بين الفطريين في إحدى قرى أفريقيا السوداء. وقد صادف أن اختفت امرأة من بينهم فاتهموا أحد السحرة بأنه هو الذي قضى عليها بسحره. وبعد بضعة أيام وجد السائح تمساحاً قرب كوخه فقتله ووجد في جوفه خلاخل وأساور تعود للمرأة المفقودة. وقد عرض السائح الخلاخل والأساور على أهل القرية فاعترفوا بأنها تعود للمرأة المفقودة، ولكنهم ظلوا رغم ذلك مصرين على أن الساحر هو الذي قتل المرأة بسحره وأن التمساح لا شأن له في هذه القضية. ولعلهم ظنوا بأن التمساح كان واسطة الساحر في قتل تلك المرأة إن هذه القصة تصور لنا بجلاء تعاكس العقليتين - الفطرية والمدنية. اعتماداً فالسائح المدني يبحث ويستنتج على مبدأ السببية، بينما الفطريون يعتقدون بتأثير السحر والقوى الروحية في أمورهم ولا يحيدون عن ذلك أبداً. وهذا التعاكس بين العقليتين يجري في كل مكان على درجات متفاوتة. وقد نجد نماذج من عقلية الفطريـــين بين الشعوب المتمدنة أحياناً وإني لا أزال أتذكر قصة انتشار وباء الهيضة في العراق عام 1926 تهرب الناس من التطعيم الواقي ولجأوا إلى إقامة الحفلات الدينية وقراءة الأدعية وما أشبه إن لكل من هاتين العقليتين الفطرية والمدنية محاسنها ومساوئها - كما ذكرنا من قبل. فالعقلية الفطرية تمد الإنسان بالاعتقاد الراسخ والثقة التي لا حد لها من جهة، وهي تجعله ميالاً لتصديق الخرافات والأباطيل من الجهة الأخرى. أما العقلية المدنية فهي تجعل الإنسان أضعف إيماناً وأقل خرافة في آن واحد. إنها مشكلة ذات حدين والحياة مليئة بمثل هذه المشكلة التي لا يكاد الإنسان يتخلص من أحد حديها حتى يبتلى بمجابهة الحد الآخر - ولات حين مناص. إن صاحب العقلية المدنية هو في العادة أكثر حكمة وتبصراً ودقة في تدبير أموره من الفطري. هذا، ولكن تشككه وتردده وقلقه يجعله أضعف منه في مواجهة المشاكل أحياناً. إنه كما ذكرنا سابقاً، يستخدم في حياته خوارق المادة ويهمل خوارق النفس ولقد وصل الفطريون في استثمار قواهم النفسية حداً قد يعجز المدنيون أن يصلوا إلى عشر معشاره. يروي (سينل): إنه عندما قتل الجنرال (غردون باشا) في الخرطوم أثناء حركة المهدي، أنبأ أحد الفطريين في جنوب أفريقيا بخبر وفاته ساعة حدوثها، مع العلم أن المسافة بين المكانين تقرب من أربعة آلاف ميل لعلي لا أغالي إذا قلت بأن الإنسان كلما تعقدت حضارته المادية وزادت ثقافته العقلية ضعفت بذلك قواه النفسية كأنما النفس والمادة على طرفي نقيض، فلا تنمو قوة إحداهما إلا على حساب قوة الأخرى إن المدني يؤمن بالقوانين الطبيعية التي تجري على نسق واحد في كل زمان ومكان، وهو يعتبر هذه القوانين غير شخصية إذ هي تسري في نظره على جميع الناس من غير تفريق وهذا التفكير العلمي هو الذي جعل المدني قادراً على اكتشاف أسرار الطبيعة وحلّ كثير من رموزها. إن المدني قبض بيده زمام المادة، ولكن زمام النفس أفلت من يده في الوقت نفسه، فهو واقعي حكيم بعيد النظر، وهو قلق متردد أيضاً. والنادر من الناس من جمع بين حكمة التفكير المدني من ناحية، ويقين التفكير الفطري من ناحية أخرى. العبقري النادر هو من يجمع بين العقل والجنون، وبين السعي والكسل وبين الإرادة واللامبالاة. وربما صح القول بأن العبقرية هي اجتماع النقائص في شخصية واحدة.
لقد درجت الطبقات الحاكمة في مختلف مراحل التاريخ على أن تبرر حكمها
الغاشم للرعية بشتى أنواع الحجج. فقد كانوا في القرون الوسطى مثلاً يبررون حكمهم
بأنه مستمد من الحق الإلهي وإنهم جند الله أو ظل الله في أرضه وبعدما
بدأت الثورة الصناعية في بلاد الغرب لجأ رجال الحكم في تبرير حكمهم إلى حجة أخرى
هي حجة من جد وجد. فهم كانوا ينظرون إلى الشعب بعين الاحتقار على اعتبار أنه مؤلف
من السوقة والأغبياء والكسالى الذين عجزوا عن الصعود في مراقي النجاح . قد ذكرنا من قبل أن مبدأ من جد
وجد قد يصلح لتربية الصبيان والصغار، ولكنه يمسي مبدأ خطراً عندما يعتنقه الكبار
فهو إذا انتشر بين الكبار صار حجة بيد الأقوياء في أن يأكلوا الضعفاء وأن يسيموهم
خسفاً واستغلالاً. فإذا أخذ الضعفاء يطالبونهم بحقوقهم قالوا لهم متبجحين: من جد
وجد.
وقد انتشر هذا المبدأ الخبيث في الحضارة الإسلامية، إبان عصرها
المزهور، قبل انتشاره في الغرب. والإسلام دين امتاز بإلغاء الفوارق الطبقية
وبإعلان المساواة بين الناس فاضطر المتكبرون من المسلمين تجاه ذلك أن يعتنقوا مبدأ
من جد وجد للتغطية.
والواقع أن نبي الإسلام ينظر إلى عامة الناس والفقراء بغير النظرة
التي ينظر إليهم بها المترفون من أتباعه. فهو يقول في حديث مأثور له: إن أهل الجنة
كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم،
وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم حوائج أحدهم تتخلخل في صدره لو
قُسَّم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم. لقد اتضح للقارئ من الفصول المتقدمة
كيف أن النجاح بشتى صوره له عوامله المتنوعة. ولقد حاولنا في هذه الفصول أن
نبحث في العوامل النفسية للنجاح. فقد
يولد الإنسان في بيت فقير بائس لا حول له ولا جاه فيندفن في وحول بيئته المحدودة
إذ لا يستطيع رقيّاً مهما كان موهوباً بأسباب التفوق أو العبقرية. إن الصعود في مراقي النجاح إذن لا يعتمد على سعي الفرد وحسن تدبيره
دائماً. فالفرد مقيد في هذا السبيل بقيود لا تحصى. فهو إن استطاع أن يتحرر من
قيوده النفسية، مثلاً، وقفت في طريقه القيود الاجتماعية وضربته على رأسه. ففي أغوار عقله الباطن عقدة
دفينة لا يشعر بها تؤدي به إلى احتقار الفلاح وإلى اعتباره نوعاً وضيعاً من الناس
لا كرامة له .إن
أباه الباشا يستغل الفلاح ويتنعم بعرق جبينه ثم يحتقره ولا يحب أن يدنو منه، حيث
قد ورث من آبائه الظلمة كراهية دفينة له .ويخيل لي أن جلاوزة العراق لا
يقلون عن هذا الباشا احتقاراً للفلاح وللفقير والمسكين حيث قد ورثوا ذلك، وراثة
لاشعورية من أسلافهم العثمانيين .يقول
جعفر بن محمد: «ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه وهذا قول يصدق في
حالات كثيرة .فلقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الكبرياء يستعمل أحياناً كستار للتغطية
لدى بعض الأفراد فإن الذي يملك مزيّة حقيقية تميزه عن غيره من الناس لا يحس بحاجة
إلى هذا الستار . فهو يدخل بين الناس على طبيعته من غير تكلف أو تكبر أو رياء.
وبعبارة أخرى: إنهم يخلقون لأنفسهم مظاهر التميز ويتصنعون بها
تصنعاً، لكي يعوّضوا بذلك عما فقدوه من حقيقة التميز الطبيعي. ذكرت في الفصل الأول
من هذا الكتاب قيود الإطار الفكري وكيف أن الإنسان لا يستطيع أن يتجرد في تفكيره تجرداً
تاماً إذ هو مقيد بقيود نفسية واجتماعية وحضارية. وهذه القيود كما قلنا لا يحس بها
الإنسان حين يفكر فهي لا شعورية. وهو يعتقد عادةً بأنه حرّ في تفكيره بينما هو في
الواقع مقيد في ذلك كل التقييد.
وقد ذكرت في الفصل الرابع بعض محتويات اللاشعور وكيف أنه يكون
أحياناً مصدر خير وإبداع للإنسان، ويكون أحياناً مصدر الشر والظلم والدناءة. فهو
مبعث الخوارق النفسية من ناحية ومباءة الرغبات المكبوتة من ناحية أخرى.
إن من الجدير بنا، ونحن في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المملوء
بالنكبات، أن نعتني بدراسة اللاشعور وما فيه من الدفائن والخبايا التي تسير
الإنسان في أموره الاجتماعية من حيث لا يشعر. إن قسطاً كبيراً من بلائنا
الذي نحن فيه ناتج من كوننا نعتمد في جميع خطبنا ومقالاتنا وفي مواعظنا ونصائحنا
على الشعور وحده ونهمل اللاشعور فنحن إذا أردنا إصلاح إنسان لجأنا إلى إقناعه
بواسطة الجدل المنطقي، وإن اشتكينا من ظلم ظالم ناشدنا ضميره ولجأنا إلى عقله
نحاول أن نجد فيه رادعاً يردعه عن ظلمه - وعلى هذا المنوال بقينا عشرات القرون
نصرخ ونستغيث فلا يستجيب لنا أحد. إننا الآن نود في سبيل
التلخيص، أن نصنّف محتويات اللاشعور إلى ثلاثة أنواع:
(1) فالنوع الأول: منها مؤلف من خوارق اللاشعور وقد خصصنا لبحثها القسط
الأكبر من هذا الكتاب. واتضح للقارئ من خلال البحث كيف أنها تكون على أجلى مظاهرها
في الإنسان حين تصفو نفسه وتخلص من أوشابها وقيودها وعقدها.
(2) والنوع
الثاني: من محتويات اللاشعور مؤلف من الرغبات المكبوتة والعقد النفسية. وقد ذكرنا
كيف أن هذا النوع من المحتويات يزاحم الخوارق المبدعة في تأثيره ويدنسها أحياناً.
(3) أما
النوع الثالث: فهو ما يمكن تسميته مؤقتاً بالقيم الاجتماعية وهذه القيم هي التي
تؤلف جزءاً كبيراً من الإطار الفكري الذي بحثنا في تركيبه في الفصل الأول. وعلى
هذه القيم تستند في الغالب همسات الضمير ووخزتاه.
لقد تطرّف الناس كثيراً في الاعتماد على الضمير البشري واعتبروه صوت
الحق المطلق والعدل في الإنسان. وهذا خطأ فظيع. فالضمير يتحيز ويتحزب في اتجاهه
كما يتحيز التفكير.
لا يجوز للمظلوم أن يعتمد على
ضمير الظالم. فالظالم حين يظلم لا يشعر بأنه ظالم، ذلك لأنه ينظر في الأمور من
خلال منظار خاص به يختلف عن ذلك المنظار الذي ينظر من خلاله المظلوم إن ضمير
الظالم مبني على أساس القيم الاجتماعية التي اعتاد الظالم على احترامها والإيمان
بها ومنظار الظالم مؤلف من المقاييس التي لقن بها بين أهله ورفاقه وزملاء مدرسته
وأبناء طبقته. إن
العدل والظلم أمران نسبيان كما أشرنا إلى ذلك من قبل وقد يتعجب المظلوم حين يرى
ظالمه منغمساً في المظالم إلى أذنيه وهو مرتاح الضمير كأنه لم يفعل شيئاً. إن الحق
مع الظالم حين يرتاح ويبتسم أثناء ظلمه لك، فهو يقيس أعماله بمقياس جماعته التي
يعيش بينها وزملائه الذين يحيطون به ويتزلفون إليه..
فهو يتصور أنه سائر حسب مقاييس صحيحة عامة تصلح لكل زمان ومكان - غير
شاعر بأن تلك المقاييس اعتبارية وهي خاصة به وبجماعته وحدها. إن القيم الاجتماعية
في الجماعة مثل العقد النفسية في الفرد كلاهما يوجه سلوك الناس ويقيد تفكيرهم من
حيث لا يشعرون. إن من الحوادث التي لا أستطيع أن أنساها حادثة وقعت في الكاظمية. قبل عشرات السنين وهي لو حللناها
تحليلاً علمياً لوجدناها ذات مغزى اجتماعي هام. فلقد تظاهر جماعة من أهالي
الكاظمية، لسبب من الأسباب، وخرجوا إلى ظاهر البلد يهرجون ويشغبون ... فجاءهم جلواز
على رأس ثلة من الشرطة وأطلق عليهم رصاص الرشاش فقتل منهم عدداً وهو لم يكتفِ بهذا
فوجه الرشاش على مقهى قريب كان مزدحماً بالجالسين فقتل منهم جمعاً غفيراً. وترك
المناحات قائمة في أرجاء المدينة. لقد
كنت آنذاك تلميذاً في إحدى المدارس المتوسطة وكانت المثل العليا والمبادئ المطلقة
التي كان المعلمون يمطروننا بها يوماً بعد يوم راسخة في ذهني. ولذا شعرت بالعجب
الشديد من جرأة ذلك الجلواز على قتل الناس برصاص الرشاش من غير تفريق بين صغير
وكبير أو بين متظاهر ومتفرج أو بين قائم وقاعد - حيث لم يفعل مثل فعله إلا
الإيطاليون في الحبشة أثناء احتلالهم إياها. لقد لقننا المعلمون ووعظنا
الواعظون بأن الضمير هو نبراس الحق وصوت العدل في الإنسان وقد تخيلت بناء على هذا
أن ذلك السفاك سيذوب حزناً من جراء ما أثكل من أمهات ورمّل من زوجات وأيتم من
أطفال، وأن ضميره سيظل يخزه حتى يموت كمداً.
ولكني عرفت أخيراً بأنه قد أصبح بطلاً يشار إليه بالبنان. فعلمت
عندئذ أن الضمير البشري لا اعتماد عليه. إن اعتماد أسلافنا على العقل
الواعي وحده أدّى بهم إلى مساوئ جمة. فهم كانوا يقولون للفاشل: من جد
وجد. وللمجرم: «ارجع إلى عقلك»، وللظالم: «أليس لك ضمير؟». وهم في أقوالهم هذه
كلها مخطئون إلى حد بعيد. ومن
المؤسف حقاً أن نرى مدارسنا وكلياتنا تعنى، في تربية طلابها، بالشعور وحده وتهمل
اللاشعور. وبعبارة أخرى إنها تربّي فيهم العقل الظاهر وتترك العقل الباطن ينمو كما
يهوى وبذلك تخلق في تكوين شخصيتهم دواعي الازدواج البغيض. إن العقل الباطن، كما ذكرنا
مراراً، هو الذي يسير الإنسان في كثير من أموره ويوجه سلوكه. أما العقل الظاهر
فليس إلا طلاء ورياء. ويمسي
الفرد بهذا مرائياً يقول شيئاً ويفعل نقيضه، أو يدعي صفة ثم يقوم بما يخالفها من
قول أو فعل فهو حين يكتب أو يخطب أو ينصح غيره تراه يعيد ما لقناه من کلمات رنانة
ومثل جوفاء. أما حين يسعى وراء العيش أو ينافس أقرانه فيه فتجده كغيره من الناس
مسوقاً بما يمليه عليه عقله الباطن من طمع دنيء أو شهوة خسيسة أو حب للشهرة والجاه
في الحق والباطل على السواء. غريب
أمر هذه الأمة، فالفرد فيها مزدوج الشخصية والمجتمع منشق الضمير … الضمير الذي ينشأ في شخص ما لا
يشمل في مداه الناس كلهم. فهو فعّال ضمن الجماعة التي ينشأ الفرد فيها، ولا يكاد
يتعدى بأثره حدودها إلا نادراً.
فقاطع الطريق، مثلاً، له ضمير
قوي جداً تجاه أفراد عصابته. فهو يحنو عليهم ويضحي بنفسه ونفيسه في سبيلهم ويأسف
كل الأسف حين يخون قيمهم التي درجوا عليها. أما حين يجابه قافلة في الطريق فلا
يشعر بأية رحمة أو حنو إزاءها. فتراه آنذاك سفاكاً قاسياً، يقتل لأقل سبب وينتهك
الحرمات بدون مبرر. وهو بعد رجوعه مع عصابته إلى مكمنه تجده ضاحكاً مستبشراً كأنه
كان يخدم الوطن وينفع الأمة. إن
هذا هو الفرق الذي جعل الحكومة العراقية غير موفقة في معظم أعمالها. فمثلها كمثل
البيت الذي يحتوي على ضرتين لكل ضرة أولادها ومصلحتها الخاصة وضميرها الذي لا يشمل
بمداه الضرة الأخرى. إن
التجنيد الإجباري لا يزال اليوم كما كان في العهد العثماني الغابر، سبباً من أسباب
انشقاق الضمير في المجتمع العراقي. لقد كان اللازم بعد تشكيل الدولة العراقية أن
تنسى الحكومة مسألة التجنيد الإجباري زمناً طويلاً لكي يتسنىٰ للذلك لأبناء الشعب
أن ينسوا تلك الويلات التي قاسوها في التجنيد على أيدي جلاوزة آل عثمان ولكن
المؤسف أنهم لم يكادوا يستقلون حتى رجعوا إلى التجنيد الإجباري بكل حماس! .. فهم
سنوا نظام التجنيد الإجباري في الوقت الذي أهملوا فيه نظام التعليم الإجباري.
وجعلوا الشعب يستعيد في ذاكرته عنجهية الحكم العثماني البغيض مرة أخرى.
ليس هناك بین البشر فرد لا ضمير له. فالضمير كالشخصية موجود في كل إنسان،
ولكنه يختلف في الاتجاه الذي يتجه إليه. وأن الذي نقول عنه أنه لا ضمير له هو في
الواقع يملك ضميراً.. وضميراً قوياً في بعض الأحيان، لكنه ضمير متحيز لا يكاد
يتجاوز بمداه حدود الجماعة التي يأنس إليها ويتغنى بقيمها ومقاييسها. هذه هي حقيقة الضمير المنشق الذي
ابتلي به جلاوزتنا في هذا العهد البغيض. فأحدهم كثير العون مخلص النية لأنسبائه
وأصدقائه وأصحابه والمحسوبين عليه، وهو يضع أموال الدولة كلها في خدمة مصالحهم.
ولكنه لا یكاد يلمح مراجعاً غير معروف لديه أو لا واسطة عنده حتى تراه قد اكفهر
وجهه وأظلمت الدنيا في عينيه وأخذ يرعد ويزمجر.. ويزيد. إننا يد. إننا نريد جيلاً متواضعاً يحنو
على الفقراء والقذرين والخرافيين فلا يستنكف منهم ولا يتعالى عليهم. إن أولئك في
الواقع لم يصلوا إلى ما هم عليه من الفقر أو القذارة أو الخرافة بإرادة منهم أو تعمد. إننا بحاجة إلى طراز من
المتعلمين يدركون بأنه لا فضل لهم فيما نالوا من نجاح أو علم أو أدب وأنهم مخاليق
وصنائع أنتجتهم العوامل الاجتماعية والنفسية التي بهم من غير أن يكون لهم يد فيها.
قال النبي محمد: «إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم
والدنانير رماهم الله بأربع خصال: بالقحط من الزمان والجور من السلطان والجناية من
ولاية الحكام والشوكة من الأعداء»
ويظهر أن هذا الحديث النبوي ينطبق علينا انطباقاً كبيراً. فكثير منا
متكبرون على من هو دونهم بمقدار ما هم خانعون نحو من هو فوقهم. وتراهم يفركون
أكفهم بين أيدي الظالمين ثم يرفعون أصواتهم في وجوه المظلومين. فهم قد ازدوجت شخصيتهم بمقدار ما
انشق ضميرهم وباؤوا بالهزيمة في كل میدان يقول علي بن الحسين : إياك وظلم
من لا يجد عليك ناصراً إلا الله. وقد دلّ التاريخ أن الطغاة الذين يظلمون
المساكين، آمنين من انتقامهم، لا بدَّ أن يأتيهم من يظلمهم ولو بعد زمن طويل.
فالمظلوم الذي لا يملك سلاحاً مادياً ينتقم به من ظلمه قد يملك سلاحاً أمضى من
السلاح المادي - هو سلاح النفس المكوّن من الدعاء الملتهب والصرخة الملهوفة التي
تصعد إلى السماء كالشرارة. إن
الطبقة العليا، حين تحتقر أبناء الطبقات السفلى، تبرّر احتقارها هذا بحجة أنهم
أولو عادات مستهجنة وأخلاق سيئة أو أنهم غوغاء لا يصلحون للتربع على كراسي الحكم سمعت
أحدهم ذات يوم وهو يشير إلى جماهير من الناس اجتمعوا في احتفال من الاحتفالات
الشعبية قائلاً: «انظر إلى هؤلاء.. وقاك الله شرهم .... فإنهم سفاكون معتدون لا
يرحمون أحداً إذا قدروا عليه». والواقع
أن أبناء الطبقات السفلى لا يستطيعون، لظروفهم القاسية، أن يكونوا مثل أبناء
الطبقة العليا في مظاهر الأدب وفي أفانين الخلق الأنيق والمزاج اللين. ولكن هذا
ليس عيبهم. إنما هو عيب الذين تعسفوا في حكمهم ونهبوا مواردهم فجعلوهم في هذه
الحالة السافلة من رداءة الخلق وسوء العادة. يقول المثل السائر: إذا ساءت
أيام المرء ساءت أخلاقه وهذا قول يؤيده علماء الاجتماع إلى حد بعيد. وكثيراً ما
نرى شخصاً حاد المزاج شديد الشغب محباً للاعتداء... حتى إذا تحسنت أحواله أصبح
بشوشاً أنيقاً. يحب التعاون ويميل إلى المجاملة واللطف في معاشراته ومعاملاته. لعلنا لا نغالي إذا قلنا: بأن
المدرسة لا تتقن إلا طلاء الإنسان إن السلوك البشري، بصورة عامة مبني على أساس لاشعوري من القيم
الاجتماعية والعقد النفسية ولا يكفي في إصلاح الإنسان إذن أن نمطره بالمواعظ
والتعاليم على طريقة (كن.. ولا تكن..) وقد نرى بعض الناس منغمسين في العادات
المضرة والعقائد السخيفة فنلومهم عليها ونحتقرهم من أجلها - غير دارين بأن كل واحد
منا معرّض أن يكون مثلهم لو كان يعيش في مثل ظروفهم. ولعلنا باحتقارنا إياهم
واضطهادنا لهم نبذر بذرات الشر في أنفسهم من حيث لا ندري إن صلاح الناس للانتخاب المباشر
لا يتم إلا بتطبيق الانتخاب المباشر فيهم فعلاً وتعويدهم عليه مرة بعد مرة. يحكى أن رجلاً علم ولده السباحة
على الفراش... فلما ذهب به إلى النهر غرق الولد فصاح به أبوه غاضباً: «أما
علمتك؟!»
«فأجابه الولد وهو في النفس الأخير: يا أبتي.. إن الناس لا يتعلمون
السباحة على الفراش!!».
إننا لا نستطيع أن نعلم الإنسان على اتخاذ سلوك معين بأن نحشو دماغه
بالنصائح الفارغة والمعلومات العاجية «إن صلاح الإنسان في
مختلف نواحيه لا يتم بالتحفيظ والتلقين - كما نفعل الآن في مدارسنا».
فهو «تصير نفسي واجتماعي،
كما يدعوه علماء الاجتماع وهو لا ينمو إذن إلا بتوفر عوامله النفسية والاجتماعية،
الضرورية له. من
أقوال (أرسطو) المشهورة: إن الإنسان مدني بالطبع». وهو يقصد بذلك أن الإنسان
اجتماعي في صميم طبيعته والواقع أن الإنسان مدني ووحشي، أو هو اجتماعي وأناني في
آن واحد. إن
للإنسان رغبات وشهوات يريد إشباعها على أي حال فهو لا يحب الحق والحقيقة بمقدار ما
يحب نفسه وما ينبعث عنها من أهواء وميول. وهو إذا وجد رغباته قد كبتت فإنه يميل
أحياناً إلى الخروج على القوانين أو إلى المراوغة في تطبيقها لكي يشبع تلك الرغبات. إن رغبات الإنسان متنوعة أهم هذه
الرغبات ثلاث هي:
(1) الرغبة المعاشية (2) الرغبة الجنسية (3) الرغبة الاعتبارية.
فالإنسان، قبل كل شيء، يريد أن يعيش حتى ولو مات الناس كلهم دونه.
ولكنه يتظاهر أحياناً بعكس هذا تفاخراً ورياءً وطالما وجدنا المترفين
والمغرورين يدعون التضحية في سبيل المصلحة العامة. وهذا كذب منهم واختلاق. فهم لو
كانوا فقراء كادحين قد أحاط بهم أطفالهم يتباكون من الجوع لأدركوا. عند ذلك مبلغ
بعدهم عن الحقيقة. والإنسان
بعد أن يسد رمقه ويصون حياته، يشتهي نوال الجنس الآخر والتلذذ به. وهو قد يدعي
أحياناً بأنه مستعد للموت في سبيل الحبيب، هذا ولكنه لا يكاد ينال حاجته منه حتى
ينبذه نبذ النواة إن شباننا يرددون أغنية الحياة الحب والحب الحياة وهم في بشبهون ذلك
الجائع الذي يتغزل برغيف الخبز وينشد القصائد الرنانة في مديحه، فإذا أكله وشبع
منه نسي هذا أنه كان جائعاً قبل حين. وبعدما يشبع الإنسان من الخبز
ومن اللذة الجنسية يشرع بالسعي وراء الشهرة وهذه هي ما نسميها بالرغبة الاعتبارية
فهو يريد أن يكون معتبراً بين قومه يشار إليه بالبنان وكثير من أولئك الذين يدعون
طلب الحق والحقيقة إنما هم في دخيلة أنفسهم يطلبون الشهرة وما الحقيقة عندهم إلا
وسيلة لهذا الهدف المحبوب جداً. إن
هذه الرغبات الثلاث موجودة في كل إنسان تقريباً على درجات متفاوتة وصور شتى وهي قد
تكون كامنة في العقل الباطن تدفع الإنسان نحو أغراضها دفعاً بينما هو يتصور بأنه
مدفوع في سبيل الحق والحقيقة. والإنسان الذي لا يستطيع أن يشبع هذه الرغبات أو
إحداها يمسي معقداً مكبوتاً. فحين
يجد الإنسان نفسه محروماً مظلوماً مقيداً ويرى غيره متخوماً طليقاً. قد تنبعث من
أغوار نفسه حوافز لاشعورية تحفّزه نحو الأذى والشغب أو إلى السرقة والكذب والاعتداء.
قال النبي محمد: «كاد الفقر أن يكون كفراً». ومن الواضح أن مفهوم
الكفر في حديث النبى لا يختلف اختلافاً جوهريا عن مفهوم الجريمة في عرف علم
الاجتماع الحديث. فكلاهما خروج عن المألوف على وجه من الوجوه. فالفقير الذي يموت
جوعاً لا نتوقع منه أن يترنم بقصائد أبي العتاهية في مدح الزهد.
حدثني أبي عن عن صديق له. كان نجاراً، أن يوماً من أيام الكساد مرّ
عليه فتركه لا يملك ما يشتري به خبزاً لزوجته وأطفاله. فهو قد ظل جالساً في حانوته
حتى وقت متأخر منتظراً أن يأتيه شيء من الرزق حينذاك. فطال انتظاره إلى أن ملّ.
وهو كان يكره أن يذهب إلى البيت إذ كانت له طفلة صغيرة اعتادت أن تنتظره في رأس
الزقاق قبيل موعد الأكل من كل يوم لتستبشر بما يأتي من طعام.
يقول الراوي: فذهب النجار إلى بيته على كل حال وهو لا يحمل لأهله
شيئاً من الطعام، فاجتمع حوله أطفاله يسألونه ويعولون، فالتفت عند ذلك نحو السماء صارخاً:
ربي.. حتى حرملة لم يفعل مثل فعلك!». إن هذا يعتبر كفراً صريحاً في نظر رجال الدين الذين ألهاهم
الترف وصحبة الطغاة عن إدراك ما يحلّ بالناس من نكبات ولكنه على أي حال كفر دفع
الرجل إليه بدافع قوي من رغباته المكبوتة ومثله ذلك المنكوب الذي رأى أخته تموت
جوعاً فاختطف رغيفاً من أحد الخبازين وترك أفراد الشرطة يركضون وراءه بكل همة وحماس. إن المترفين والمدللين من الناس
لا يتفوهون طبعاً بمثل ما تفوه به ذلك النجار ولا يسرقون كما سرق هذا المنكوب
فأمورهم الهيئة وعيشهم الرغيد يجعلهم ينسون الكفر والجريمة. إنهم مشغولون بدل ذلك
بإلقاء الخطب الرنانة في مدح العدالة والحق والفضيلة والناس حولهم يصفقون لهم
ويهتفون لقد كتب المتمدنون تاريخ أممهم في ضوء مبادئ العدالة الاجتماعية التي
انبثق نورها في هذا العصر الجديد. وقد آن لنا أن نكتب تاريخنا في ضوء مبادئ
العدالة التي جاء بها الإسلام.
تعليقات
إرسال تعليق