​ما هو اللاشعور


 اللاشعور، هو عبارة عن مخزون كبير يحتوي في أعماقه على أمور ضارة ونافعة في آن واحد. وقد تتغلب الأمور النافعة في نفسية فريق من الناس فتجعله عبقرياً أو ذا مواهب خارقة وقد تتغلب الأمور الضارة في نفسية فريق آخر فتدفعه نحو الالتياث العصبي أو نحو الرقاعة والجنون
 
فـ الإنسان لا يسير في سلوكه دائماً بناء على ما يمليه عليه التفكير أو الإرادة. فهناك في أعماق النفس حوافز خفية تدفع الإنسان نحو عمل ما من غير أن يعرف الإنسان مأتاها من نفسه . 
وحين ندرس نظرية فرويد في اللاشعور (ميتافيزيقية فرويد) فإنه عدَّ اللاشعور بمثابة قوة غيبية تخلق الإنسان منذ بداية تكوينه دون أن يكون لها سبب موضوعي في واقع الحياة الذي ينشأ الإنسان فيه .
 
لو فحص كل واحد منا نفسه وتأمل في تصرفاته المتنوعة لما استطاع أن ينكر وجود حافز غير إرادي في نفسه يدفعه إلى بعض الأفعال والأقوال من حيث لا يشعر وهذا الحافز قد لا يكون مطابقاً لمفاهيم فرويد إنما هو موجود بمعناه الفطري في كل إنسان. ونحن قد نطلق عليه اسم «الشعور» أو نطلق عليه اسماً آخر
يجب أن ندرك أن وراء عقلنا المفكر عقلاً ثانياً يدفعنا إلى اتخاذ سلوك معين نحو الناس والأشياء دون أن تكون لنا إرادة واعية فيه . 
حيث تقع للإنسان في كل يوم من حياته أحداث شتى يكاد لا يحصيها عداً . وهو يتلذذ بها أو يتألم، وينتفع أو يتضرر. ويمر الزمن عليها بعد ذلك فتذهب في طي النسيان ويحسب صاحبها أنها زالت من ذهنه إلى غير رجعة. وكذلك يحفظ الإنسان معلومات جمة فينسى أكثرها ويظن أنها أصبحت غير مفيدة له إذ هي في زعمه اختفت من ذهنه اختفاء أبدياً . الواقع أن جميع الأحداث التي تقع للإنسان تؤثر في ذهنه على صورة من الصور، ويبقى تأثيرها كامناً في أعماق الذهن مهما ظن الإنسان أنه نسيها . وليس النسيان إلا اختفاء الفكرة من العقل الواعي، إذ هي تذهب عند ذاك إلى العقل الباطن، وتظل كامنة هناك تنتظر الفرصة الملائمة للظهور. وهي كثيراً ما تظهر في الأوقات التي يتخدّر فيها العقل الواعي أو ينام ـ كما ذكرنا سابقاً .
فالمخ البشري يشبه العقول الإلكترونية التي اخترعها العلماء مؤخراً، فهو يختزن في أعماقه كل خبرة تطرأ عليه. وهنا يجب أن لا ننسى أن العقل الإلكتروني يختلف عن المخ البشري بكونه يختزن المعلومات النافعة التي يسجلها العلماء فيه عن قصد وتصميم. أما المخ البشري فهو يختزن جميع الأحداث التي تمر بالإنسان، سواء الضارة منها والنافعة، ومن هنا وجدنا اللاشعور يسف ببعض الناس فيجعلهم مجانين أو رقعاء، ويسمو بآخرين فيجعلهم عباقرة أو أولي مواهب خارقة. وهذا هو مصداق ما قال الأستاذ مایرز حين وصف النشاط اللاشعوري في الإنسان بأنه يحتوي على منجم من الذهب وكومة من الأقذار . 
وقد يسهو الإنسان أحياناً فيعجز عن رؤية شيء قريب منه لأن عقله الباطن متجه إلى غيره. وهو يظل يبحث عن ذلك الشيء دون جدوى. ومثال على ذالك . يحكى أن امرأة كانت تحمل طفلها على ذراعها وتبحث عنه، فهي تسأل عنه الناس : أين ذهب؟ والناس لا يدرون أنها تسأل عن الطفل الذي تحمله. سبب ذلك أنها كانت تخاف على ابنها من الضياع وقد كمنت فكرة الخوف هذه في عقلها الباطن مما جعلها تتخيل ضياعه على الرغم من وجوده بين سمعها وبصرها
وهنا نذكر خلاصة وتجربة (بافلوف) ففي رأيي أن هذه التجربة ذات مساس كبير بموضوع اللاشعور في الإنسان فقد جاء بكلب فثقب فكه الأسفل ثم وصل الثقب بأنبوبة تسمح للعاب أن يتسرب فيها إلى وعاء خاص معد للقياس. وكان بافلوف يحضر للكلب مرة بعد مرة طعاماً لذيذاً في عين الوقت الذي يدق فيه جرساً والقصد من ذلك أن يكون تناول الطعام مصحوباً برنين الجرس في كل مرة وعمد بافلوف أخيراً إلى الاكتفاء بدق الجرس من غير تقديم الطعام فوجد بأن لعاب الكلب أخذ يسيل مع صوت الجرس. عند هذا استنتج بافلوف القاعدة العلمية المعروفة وهي أن من الممكن لأي مؤثر ثانوي أن يصير مؤثراً أولياً متى صحب مؤثراً أولياً عدداً كافياً من المرات وقد أطلق بافلوف على هذه القاعدة اسم «الاستجابة المشروطة».
اتضح أخيراً أن الاستجابة المشروطة تصدق على الإنسان كما تصدق على الكلب وأصبح في الإمكان تفسير كثير من الظواهر النفسية بها . 
إن كثيراً من مظاهر السلوك البشري تجري على هذا النمط والإنسان يقوم بها دون أن يعرف مصدرها في نفسه فأنت قد تشاهد شخصاً ما لأول مرة في حياتك ولكنك تشعر بكراهية شديدة له وحين تسأل عن سبب هذه الكراهية الاعتباطية لا تستطيع أن تأتي بالجواب الوافي له. الواقع أنك تكرهه لسبب مدفون في أعماق نفسك وأنت لا تعرفه معرفة وافية. إن الشخص المكروه ربما كان شبيهاً في ملامح وجهه أو حركاته بشخص آخر كان قد اعتدى عليك أو آذاك في سالف الأيام، فكرهته في حينه كرهاً شديداً وربما حاولت الانتقام منه فلم توفق. ومرت بعدئذ عليك الأيام فنسيت بها حادثة الاعتداء، إنما بقيت تكره أي شيء يذكرك بها فهذه الظاهرة النفسية وأمثالها بأنها ناتجة عن رغبة مكبوتة فالإنسان قد يقوم بعمل ما دون أن يكون له فيه وعي أو تفكير . 
فحين نقارن بين الكلب والإنسان من الناحية النفسية نجد بينهما فرقاً لا يستهان به. فالكلب لا يملك العقل الواعي والتفكير على منوال ما يملكه الإنسان. معنى هذا أن الكلب يندفع باستجاباته المشروطة كما تندفع الآلة الصماء تقريباً فلا يميز بينها وبين غيرها من الاستجابات العادية. أما الإنسان فهو حيوان مفكر ولهذا فهو قد يعاني أحياناً شيئاً من الصراع النفسي بين ما يدفعه إليه تفكيره الواعي وما تدفعه إليه استجاباته المشروطة
فالإنسان حين يكره شخصاً دون سابق معرفة به لا يستطيع أن يندفع بعاطفته هذه اندفاعاً آلياً كما يفعل الكلب. إن عقله الواعي يردعه عن ذلك. وهو يمسي عندئذ في موقف حرج حيث يصعب عليه أن يهمل نداء العقل من جهة فيتعرض لغضب الناس واستنكارهم ويصعب عليه من الجهة الأخرى أن يكبت عاطفته من غير تنفيس . 
إن هذه التجربة على بساطتها قد تساعدنا على فهم الانحرافات الخلقية التي نشهدها في بعض الناس أحياناً ومدى تأثير اللاشعور فيها. فالإنسان قد يميل بطبيعته إلى شيء ولكنه يصبح كارها له بعد أن يمر بتجارب قاسية من شأنها تكريه الشيء إليه.
إن أولئك المتزمتين الذين يتعصبون لعادة الحجاب تعصباً شديداً ثم يأتون بالأدلة العقلية والنقلية للبرهنة على أن تلك العادة خير حصن لشرف المرأة وعفّتها. علّة ذلك أن كل واحد منهم قد عاش في مجتمع تشتد فيه عادة الحجاب بحيث صار الناس يصفون المرأة الشريفة بأنها «بنت بيت» لا يسمع  صوتها ولا يرى إصبع واحد منها .
إن هذا الإيحاء الاجتماعي يتغلغل في النفس وكلما ازداد تكراره على الإنسان اشتدّ تغلغله في أعماق عقله الباطن وحين يفكر الإنسان بعد ذلك يشعر بأنه حر في تفكيره إنه لا يدري بوجود الدافع اللاشعوري الكامن تحت سطح تفكيره والذي يدفعه إلى التقزز من كل فكرة تدعو إلى نبذ الحجاب . 
ينشأ الإنسان عادة في بيئة ذات عقيدة معينة. فهو لا يكاد يفتح عينه للحياة حتى يرى أمه وأباه وأهل بيته وأقرانه يقدسون صنماً أو قبراً أو رجلاً من رجال التاريخ وينسبون إليه كل فضيلة. وعقل الإنسان ينمو في هذا الوضع حتى يصبح كأنه في قالب وهو لا يستطيع أن يفكر إلا في حدود ذلك القالب. إنه مقيد ويحسب أنه حر ولهذا نجد كل ذي عقيدة واثقاً من صحّة عقيدته وثوقاً تاماً أما المخالفون له فهم متعصبون ـ تعساً لهم
أرى أحياناً بعض الطائفيين الذين ورثوا عقائدهم من آبائهم وهم يقولون إنهم اعتنقوا تلك العقائد بعد أن بحثوا في مختلف العقائد الموجودة لدى الناس وقارنوا بينها وقد قرأت لأحد هؤلاء في الأونة الأخيرة مقالة رنانة يقول فيها بكل تأكيد وجزم : إن جميع أصحاب الأديان متعصبون ما عداء وعدا القليلين أمثاله. إن هذا الرجل سامحه الله لا يدري أن أصحاب الأديان الأخرى يقولون عن أنفسهم مثلما يقول. فكل واحد منهم يجول بذهنه بين الأديان فلا يرى ديناً أفضل من دينه إنه اعتاد عليه منذ نشأته الأولى وبهذا أصبحت جذور العقيدة الموروثة ممتدة في أعماق عقله الباطن، وهي إذن تقيد تفكيره من حيث لا يشعر، وهذا  كان من العوامل الرئيسة التي جعلت أكثر الناس يقاومون الأنبياء ويضطهدونهم ويقذفونهم بالأحجار لا فرق في ذلك بين محمد أو عيسى أو بوذا أو سقراط .
إنك لا تستطيع أن تقنع أحداً بصحة عقيدة جديدة إلا إذا تمكنت أول الأمر من تغيير معاييره اللاشعورية بحيث تكون ملائمة لتلك العقيدة. وهذا هو ما أدركه المحنكون من دعاة العقائد والمبادىء قديماً وحديثاً.
لا ننكر أن كثيراً من الذين يحاربون الأفكار الجديدة هم من أصحاب المصالح القائمة، فهم يكرهون الفكرة الجديدة مخافة أن تنهار مصالحهم بها. وهؤلاء هم الذين أطلق عليهم القرآن اسم «المترفين». وهنا نستطيع أن نفهم ما جاء في القرآن حيث قال:
» وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍۢ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ« 
إن المترفين في كل مجتمع قلة، وقد لا يتجاوز عددهم أحياناً عدد أصابع اليدين والرجلين. أما الكثرة الكاثرة من الناس فهم قد يحاربون الفكرة الجديدة على الرغم من ملائمتها لمصالحهم والسبب في ذلك أن أفكارهم وعقائدهم القديمة قد انغمست في أغوار نفوسهم ويأتي المترفون بعد ذلك فيرفعون راية الحرص على تلك العقائد «المقدسة»، فيتبعهم بقية الناس فيها كالأغنام 
والمترفون أنفسهم قد يخادعون أنفسهم أحياناً من حيث لا يشعرون . فمصالحهم القائمة قد يكون لها جذور فكرية ممتدة في أعماق عقولهم الباطنة وهي إذن قد تحفزهم نحو إخفاء الحقيقة، على أنفسهم وعلى الناس، من حيث يظنون أنهم مجاهدون في سبيل الحقيقة .
فالإنسان حيوان قبل أن يكون إنساناً. وأنت حين تنصحه بما يخالف عاداته واستجاباته المشروطة قد يستمع إليك باحترام وقد يقول لك: «أحسنت بارك الله فيك، ولكنه يبقى كما كان مثابراً على عاداته القديمة، وهو لا يتردد أثناء ذلك أن غيره بما نصحته به. إن عقله الواعي يفكر على نمط، بينما ينصح عقله الباطن يدفعه نحو نمط آخر وشتان بين النمطين!
 
ونستخلص من هذا الفصل الطويل أن موضوع اللاشعور وأثره في حياة الإنسان موضوع مهم جداً لا يجوز لنا التغاضي عنه أو التقليل من شأنة. ومن مصلحة كل إنسان أن يدرس هذا الموضوع لينتفع به في استثمار مواهبه النفسية من جهة، وفي معالجة عقده النفسية من الجهة الأخرى
…………………………………………
ملخص من كتاب : الأحلام بين العلم والعقيدة 
الكاتب: الدكتور علي الوردي 
 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ألبوم يحتوي على أقدم صور متوفرة عن الأحساء منذ 1908

أنواع الإضاءة – إضاءة الأستوديو(5)

ملخص كتاب : مقاليد القراءة