ملخص كتاب داعش ( شرعنة التوحش)

 ملخص كتاب داعش



إسم الكتاب: داعش: شرعنة التوحش | المؤلف: وفاء صندي | عدد صفحات الكتاب 456 الطبعة الأولى | تاريخ النشر: 31/01/2021 | دار النشر: مركز دراسات الوحدة العربية

 

أثار التنظيم الذي أَطلق على نفسه اسم «الدولة الإسلامية» خلال الفترة القصيرة التي احتل فيها الأرض في سورية والعراق وفرَض فيها نفسه على الساحة الدولية متصدِّرًا عناوين الأخبار العالمية حيرة العالم، نظرًا إلى أيديولوجيا هالموغِلة في التوحُّش، وقدرتِه على استقطاب آلاف المقاتلين الأجانب والنساء والأطفال ورغبته في بسط نفوذه لأقصى مدى ممكن وهذا ما دفعه إلى تغييره اسمه بين الحين والآخر، في انعكاس لتغيُّر تطلعاته وتوسُّع أحلامه.

أصبح: «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» أو ما يعرف اختصارًا بـ«داعش». لكن بعد توسُّع تنظيم الدولة بضم المزيد من الأراضي في سورية والعراق، وبعدما تخطت أحلامه الجغرافيا التي سيطر عليها أعلن قيام «الخلافة» ونصَّب أبو بكر البغدادي نفسه خليفة على المسلمين، وأطلق على تنظيمه اسم «الدولة الإسلامية»، في إشارة إلى أنَّ نفوذه يتجاوز كل الحدود الجغرافية؛ ما دفع الكثير من دول العالم إلى رفض الإشارة إلى التنظيم بهذا الاسم خشية أن تُضفى عليه صِبغةٌ شرعية. أيًّا كانت التسميته، فقد شكَّل صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» مؤشرًا على بدء حقبة جديدة من التاريخ الإرهابي فالتنظيم الذي أعلن عن هدفٍ بعيد المدى؛ هو إقامة «دولة» و«خلافة» إسلامية، استنادًا إلى أيديولوجيا في غاية التطرُّف  جعله أكثر من مجرد تنظيمٍ إرهابيّ، على الرغم من أن أصوله ترقَى إلى كونه فرعًا من تنظيم القاعدة. فما السياق التاريخي لظهور تنظيم الدولة؟ وكيف استطاع أن يخرج من عباءة التنظيم الأم وينقلب عليه؟ ومن أين استقى أحكامه الغارقة في الدموية والتوحُّش وأحدث زلزالًا حتى داخل التنظيمات الأشد تطرفًا؟ كلها أسئلة سيرد عليها هذا الكتاب. استطاع تنظيم «الدولة الإسلامية»، رغم أيديولوجياه الموغلة في التشدُّد، أن يستقطب أزيد من 42 ألف مقاتل أجنبي من أكثر من 120 دولة، وشهِد عام 2015 أكبر موجات تدفق للمقاتلين الأجانب على سورية والعراق. وخلال فترة وجيزة، تحوَّلت جبهة سورية إلى أكبر ساحة لجذب المقاتلين الأجانب في التاريخ المعاصر. أمَّا التحول اللافت الأكبر فتمثل بمشاركة المرأة في «الهجرة» وتبدُّل أدوارها داخل هذا التنظيم الإرهابي. فقد استقطب تنظيم الدولة أزيد من 550 امرأة أوروبية سافرن إلى مناطق خاضعة له. وفي بعض الدول مثَّلت النساء ما بين 20 و30 بالمئة من المقاتلين الأجانب، كما ازداد عدد الفتيات الصغيرات اللاتي أقسمن بالولاء لتنظيم الدولة على الإنترنت. أمام صدمة أعداد الأشخاص الذين التحقوا بالتنظيم، ونظرًا إلى خطورة ظاهرة المقاتلين الأجانب وانعكاساتها على الأمن الإقليمي والدولي، انقسمت اهتمامات الباحثين والمختصِّين حول بُعدين أساسيين لهذه الظاهرة. البعد الأول: يتعلق بالاهتمام بمعرفة الجهة التي تقف وراء تسهيل عملية انتقال المقاتلين الأجانب، ومن يوفر لهم الأموال والدعم اللوجستي والتنقُّل عبر المطارات والموانئ بسهولة، وتحت أعين الاستخبارات الدولية، وما مصالح تلك الدول؟ كانت الإجابات تدور حول وجود ثلاثة دوافع وراء تشجيع انتقال المقاتلين من دولهم إلى سورية، وهي: أولًا: اعتقاد استخبارات تلك الدول بأن سورية ستكون «مقبرة» جديدة للتخلُّص من هؤلاء الإرهابيين الذين يمثِل وجودهم في دولهم الأصلية، الغربية منها تحديدًا. ثانيًا: استخدام هؤلاء المقاتلين الوافدين على الساحة السورية كأداة تنفيذية، يتم استخدامها وتوظيفها في الصراع الدولي بين القوى الكبرى. وهي أسباب ترتبط برغبة دولية لتحقيق مكاسب استراتيجية. وقد عاش العالم تجربة مماثلة في أفغانستان، فقد كان المستفيد الأول من «الأفغان العرب» هي الولايات المتحدة الأمريكية التي استطاعت من خلالهم إسقاط عدوها الاتحاد السوفياتي، دون أن تتورَّط عسكريًّا في الحرب ودون أن تخسر رصاصة واحدة أو ترسل جنديًّا أمريكيا واحدًا إلى أفغانستان.

البعد الثاني يتعلق بالانشغال أكثر بتتبُّعِ ظاهرة المقاتلين الأجانب، محاولةً هذه الاهتمامات فهم أسرار جاذبية تنظيم الدولة، والتعرُّف إلى جنسيات المقاتلين،وكيفية استقطابهم وتجنيدهم،وخلفياتهمالاجتماعية والسياسية والثقافية وتوجهاتهم الأيديولوجية والفكريَّة، وأسباب ودوافع التحاقهم بالتنظيمات الإرهابية. لم يُخفِ تنظيم الدولة أفكاره المتشدِّدة وأحكامه الموغلة في التوحُّش، بل جهَر بها، واعتمد عليها في التسويق لنفسه إعلاميًّا، متخليًا بذلك عن نموذج القاعدة في اجتذاب المقاتلين أولًا ثم محاولة جعلهم متطرفين فيما بعد. وهدفُ التنظيم من وراء ذلك هو تجنيد مؤيدين مؤمنين، منذ البداية، بعقيدة التنظيم، منبهرين بقوته، التي عمل على إظهارها من خلال الرسائل والتسجيلات المرئية.

فإنَّ جبهة سورية تفوَّقت على كلِّ الجبهات التي تشكَّلت كساحات لاجتذاب المقاتلين الأجانب سابقًا، سواء في أفغانستان أو البوسنة أو العراق، كما سنرى في هذا الكتاب. فقد شكلت سورية حالةً استثنائية من حيث نوعية المقاتلين وأعدادهم؛إذ يفوق عدد الأفراد الذين يتم حشدهم، من العالمَيْن العربي والإسلامي ومن أوروبا عددَ الأشخاص الذين حُشِّدوا خلال جميع الصراعات الأجنبية الأخرى التي نشبت على مدى السنوات العشرين الماضية مجتمعة. فما الذي يدفع شخصًا ما إلى السفر مسافات بعيدة، ليلقي بنفسه بين براثِن الحرب والقتل والرصاص، تاركًا وراءه وطنه، وعائلته، وأحلامه؟ لماذا اختاروا طريق العنف للتعبير عن مواقفهم إزاء أنفسهم وإزاء مجتمعاتهم؟ وما الأسباب الذاتية والمؤثِّرات الخارجية التي قادت إلى هذا الهروب إلى الموت؟

لعل هذه الأسئلة واحدة من أهم الإشكاليات المتعلقة بظاهرة الإرهاب وأعقدها. بالتأكيد، ليس هناك نمط موحد (بروفايل موحد)، ولا خلفية اجتماعية أو اقتصادية مشتركة، ولا حتى تربية دينية متشابهة بين الأفراد الذين انجذبوا إلى خطابات التنظيمات الإرهابية وقرروا الالتحاق بصفوفها والخضوع لأحكامها المتشددة.

فبعيدًا من الصور النمطية التي تضع «الإرهابي» في قالب الشخص البسيط أو الغبي الخارج من بيئة فقيرة ومستوى دراسي ضعيف إلى منعدم، فقد أثبتت دراسة حالة تنظيم الدولة أن «المقاتل الأجنبي» هو شخصٌ متعلم، واعٍ ومن عائلة ميسورة وبيئة متحررة وأن الوازع الديني ليس هو محركه الأساسي للتطرف بل إن ما يدفعه إلى اعتناق الفكر المتشدد هو أكبر من كل ما يمكن أن يطلق من أحكام جاهزة لتبسيط أسباب الظاهرة لم يكتفِ تنظيم الدولة بتجنيد مقاتلين شباب من مختلف الأعمار لكنه عمد إلى الاستعانة بالنساء من أجل إضفاء صبغة مجتمعية على دولته الوليدة وإعطاء انطباع عام أن روايته قادرة على استقطاب كل فئات المجتمع اهتم هذا الكتاب بالبحث عن التحولات التي عرفتها التنظيمات المتطرفة والإرهابية في نظرتها واستغلالها للمرأة مع إلقاء الضوء بصفة خاصة على المرأة القاعدية والمرأة الداعشية التي مثَّلت صدمة للعالم بعدما هجرت أهلها وحياتها المستقرة الهادئة للالتحاق بتنظيم لم يخفِ نظرته الدونية إلى المرأة ولم يخفِ أحكامه المتشددة بخصوصها. فما الذي يدفع المرأة إلى تبنِّي أيديولوجيا متطرفة عنيفة؟ وماذا يدفعها إلى التخلِّي عن حياتها من أجل الالتحاق بتنظيم يمارس عليها أحكامًا متشدِّدة في اللباس والزواج وممارسة الحريات؟

فإن المرأة لم تكن الورقة الوحيدة التي استند إليها التنظيم واستغلها بل كان الرهان الأخطر على الأطفال الذين تم تعليمهم وتأطيرهم وتدريبهم. وهم من يمثلون الاستثمار الحقيقي للتنظيم في مستقبله المتطرف الغامض، الذي لا بدَّ من الحذر منه والتصدِّي لكل خططه التدميرية على المدى القريب والمتوسط. فتنظيم «الدولة الإسلامية» لم يهتم فحسب بتجنيد عدد من الأطفال وإخضاعهم لدورات تدريبية شرعية وعسكرية لكنه راهن على أكبر عدد من الأطفال في سورية والعراق بعدما أجبر أهاليهم على إرسالهم إلى مدارسه التعليمية التي فرض سيطرته عليها بعدما قام بإخضاع المدرسين لدورات شرعية وصوغ مناهج جديدة تتمشى مع عقيدة التنظيم ورغبته في السيطرة على عقول الأطفال وتطويعهم لفكره. فلأكثر من عامين تلقَّى هؤلاء الأطفال دروسًا في الفكر المتطرف والعقيدة العنيفة للتنظيم. فلماذا ركز التنظيم أكثر فأكثر على الأطفال؟ وما الغاية من تخصيص مناهج دراسية خاصة به؟ وما مدى انخراط أطفال التنظيم في العنف؟ ومامسؤولية العالم أمام أولئك الأطفال المحتجزين اليوم في مخيمات للاجئين أو داخل أسوار السجون؟

أيضاً إن وراء كل ذئب منفرد أسبابًا ودوافعَ حوَّلته إلى أداة انتقامية في أيدي التنظيم الإرهابي. فماذا يمكن أن يحول شخصًا طبيعيًّا إلى ذئب منفرد؟ وما نقاط التحول في حياة أولئك الذئاب؟وما دوافعهم لارتكاب العنف؟

فإذا كان العالم يقف حتى الآن عاجزًا عن تحديد كيفية مكافحة الإرهاب بصورة أفضل؛ فلأنه، أولًا، لا توجد بحوث كافية صحيحة وشاملة في هذا المجال. ثانيًا، لأن صنَّاع القرار لا يعيرون تلك الأبحاث اهتمامًا، إذا وجِدت على افتراض أن الماكينة العسكرية والأمنية قادرة على القضاء على الإرهاب. وهذا خطأ طبعًا. لذلك كان لا بدَّ من الإصرار على أن القضاء على الإرهاب يبدأ بالقضاء على الظروف والأسباب التي خلقته والتي أسهمت في تحويل أشخاص معينين إلى متطرفين وقادتهم من الحياة الطبيعية إلى حياة التطرف والانعزال الذي يُفضي في النهاية إلى العنف. والقضاء على الإرهاب يبدأ أيضًا بالقضاء على البيئات الحاضنة له، التي خلقت مجالًا خصبًا لنمو التنظيمات الإرهابية وانتشار الفكر المتطرف. يصعب القول بأن إرهاب «داعش» قد انتهى بنهاية دولته. بل يعني فقط مرحلة جديدة من الإرهاب أسّس لها البغدادي سابقًا وسوف يشهد عليها العالم مستقبلًا. إن البحث في ظاهرة مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» وتحليل أسباب اختيار أشخاص بعينهم دون غيرهم طريق التطرف والإرهاب ممن يعيشون الظروف نفسها وفي البيئة نفسها وربما في البيت نفسه لم يكن أمرًا سهلًا ولا يسيرًا بل تطلَّب أشهرًا متعددة من الإعداد والبحث والمتابعة. وتطلَّب أيضًا محاولاتٍ دؤوبة للحصول على بيانات أو بعض المعلومات عن بعض المقاتلين، عبر القنوات الرسمية لبلدانهم، لكنَّ كل تلك المحاولات باءت بالفشل، وبخاصة أن أقطارنا العربية لا تزال تحسب الإرهاب قضية أمنية، وبالتالي تبقى المعلومة في خصوصها حِكرًا على الجهات الأمنية فقط ـ وحتى على مستوى العالم لا ننكر أن هناك نقصًا في البيانات.

فالتاريخ يقول إن العنف في العالم وداخل التنظيمات المتطرفة والإرهابية هو في منحى تصاعدي منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر. فسيد قطب كان أكثر تشددًا من حسن البنا، وبن لادن أشد من سيد قطب، وأيمن الظواهري أكثر تشددًا من بن لادن، وأبو مصعب الزرقاوي أكثر عنفًا من الظواهري، والبغدادي أكثر دموية من الزرقاوي، و«الخليفة الثاني» لتنظيم الدولة ربما سيكون أكثر وحشية من خليفتها الأول، البغدادي. فإن مفهوم الجهاد الذي جاءت به سيدنا محمد ﷺ، ليس مفهوم الجهاد كما أسَّست له جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، ولا هو مفهوم الجهاد كما نظّر له سيد قطب، ثم محمد عبدالسلام فرج في كتابه الفريضة الغائبة، ولا هو الجهاد الذي تبنَّاه تنظيم الجهاد في مصر، ثم تنظيم القاعدة، والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتنظيم أنصار الدين، وحتى تنظيم «الدولة الإسلامية». فمعنى الجهاد الصحيح بعيدٌ كل البعد من الطريق الذي سلكته تلك التنظيمات الإرهابية، من أجل تحقيق تغيير سياسي أو السطو على السلطة باسم الدين. وهذا ما يستدعي تحديدًا خلع رداء الشرعية عنهم، ووصفهم بما هم أهل له (تنظيمات إرهابية)، وليس بما يدَّعون.

ينتمي تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى تيار «السلفية الجهادية» ويمثِّل جزءًا من المدارس والأفكار التكفيرية التي خرجت من رحم تنظيم القاعدة الذي تقوم رؤيته الفكرية على وجوب «المفاصلة الجهادية» مع الأنظمة الحاكمة بالعالم الإسلامي وحلفائها الغربيين تمهيدًا لإقامة «دولة الخلافة الإسلامية» لتطبيق أحكام الإسلام. غير أن تنظيم «الدولة الإسلامية» تجاوز التنظيم الأم من حيث التشدُّد والدموية وتمرَّد عليه وخرج عن طاعته المفاصلة: تعني أن الانفصال عن الأنظمة الحاكمة انفصالًا تامًّا لا لقاء معه في منهج ولا طريق.

لا يمكن الحديث عن السياق التاريخي لتنظيم «الدولة الإسلامية» من دون العودة إلى الحرب في أفغانستان التي شكَّلت النواة الأولى لظهور الجيل الأول من «المجاهدين»، وما تلاها من تأسيس تنظيم القاعدة الذي شكَّل البوتقة التي خرجت منها فكرة «الجهاد العالمي» الذي بات يتنافس عليه اليوم تنظيم الدولة بقوة. فمن رحم المجاهدين العرب تأسَّست القاعدة، ومن رحم القاعدة تناسلت، في خط تراكمي، مختلف التنظيمات المسلحة في العراق من جماعة «التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين. فقد أصبحت باكستان وأفغانستان وجهة لهجرة عالمية غير مسبوقة للشباب المسلم استجابة لفتاوى «الجهاد» ضد الاتحاد السوفياتي. فمن الولايات المتحدة وحتى جنوب شرق آسيا، وبأغلبية من منطقة الشرق الأوسط، بدأت الهجرة إلى باكستان للانضمام والقتال إلى جانب المقاومة الأفغانية. وقد بدأ تدفق المقاتلين العرب إلى أفغانستان للمشاركة في القتال منذ عام 1982 أنشئت الكثير من المعسكرات لتدريب المتطوعين على القتال.

عندما بدأ الاتحاد السوفياتي، في عام 1988، انسحابه من أفغانستان معلنًا نصر «المجاهدين الأفغان»، ترك وراءه جيشًا من المقاتلين الأجانب. وبعد انتهاء «الواجب الجهادي»، كان الجزء الأكبر من المقاتلين العرب، غير مرحَّب بهم في بلادهم، ما دفع بن لادن إلى التفكير في كيفية تسخير طاقاتهم والاستفادة من مهاراتهم القتالية التي اكتسبوها في أفغانستان. في الوقت الذي اعتبر فيه عزام وغيره أنه يجب إعادة توجيه هؤلاء «المجاهدين»، إلى القتال في فلسطين، ارتأى بن لادن بدلًا من ذلك، إنشاء منظمة مستقلِّة تعرف باسم «القاعدة». وسعى لتكون هذه المنظمة مركزًا وقاعدة تدريب متكاملة للمساعدة على دعم المقاتلين العرب للقيام بحملات جهاد أخرى في جميع أنحاء العالم. بعد أن وضعت الحرب أوزارها وعاد بن لادن إلى السعودية، دخل في عام 1990، في مواجهة مع النظام الحاكم لبلده، فيإثر طلبه عدم الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية في إخراج العراق من الكويت، والاعتماد بدلًا من ذلك علىالمجاهدين الذين قاتلوا في أفغانستان. عقب تلك المواجهة قرر بن لادن الذهاب إلى السودان.

وبعد أن لحق به أيمن الظواهري إلى هناك أقنعه بتكوين تنظيم عسكري شبه عالمي،يكون على أهبة الاستعداد للتحرك ضد المصالح الأمريكية في أكثر من مكان بالعالم"بعد الفراغ الذي خلَّفه انسحاب السوفيت. في هذه الحقبة عاد بن لادن مرة أخرى إلى أفغانستان ودخل في شراكة فعلية مع طالبان. وقد أنشأ تنظيم «القاعدة» معسكراتِ تدريبٍ في شرق البلاد، لتدريب المسلحين للقتال. لدعم جهود طالبان لزيادة الأمن في أفغانستان. وفي شهر آب/أغسطس 1996، كان الإعلان الرسمي الأول لبن لادن ولـ«القاعدة»،إصدار فتوى «إعلان الحرب ضد الأمريكيين الذين يحتلون أرض الحرمين الشريفين»، والفتوى الثانية صدرت في شباط/فبراير 1998، حيث اقترح بن لادن مزيدًا من التوسع في أهداف «القاعدة» وتنامي قوة شبكتها. وأعلن وقتها إنشاء ماسمّاه «الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين». هذه الفتوى كانت بعنوان «الجهاد ضد اليهود والصليبيين»، وشارك في توقيعها قادة آخرون من الجماعات الإسلامية. وارتكزت فكرة تأمين الخلافة العالمية، على الهجوم على «العدو البعيد»، أي الولايات المتحدة وحلفائها،وهو ما يؤدي إلى إطاحة «العدو القريب» تلقائيًّا. على أرض أفغانستان، أدَّى تزاوج الأفكار الجهادية القادمة من مصر،مع الأفكار السلفية القادمة من دول الخليج إلى إفراز منتج عملي للسلفية الجهادية. وتُرجم هذا التزاوج إلى تحالف بين«الجهادي» المصري، زعيم القاعدة حاليًا، أيمن الظواهري  وزعيمها السابق، السلفي أسامة بن لادن. وفي أواخر التسعينيات، أصبحت «السلفية الجهادية» مدرسة متكاملة، فيها أدبيات ودعاة ومواقع إعلامية، تطبق نظريات السلفية الجهادية على الأرض. ومع أحداث 11 أيلول/سبتمبر في نيويورك  ظهرت نقطة تحوُّل في تاريخ مقاتلي القاعدة، الذين تغيَّرت أوضاعهم تغيرًا جذريًّا بعدما أقدمت الولايات المتحدة على قصف أفغانستان واجتياح أراضيها، واستئصال حركة طالبان منها، وشن حرب على الإرهاب الذي كان يمثله تنظيم القاعدة، ما دفع مقاتلي التنظيم إما إلى العودة إلى إوطانهم وإما إلى البحث عن مناطق صراع جديدة للقتال ومواجهة أعدائهم الغربيين. وقد تأتَّى لهم ذلك فعلًا بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003.

أثار الغزو الأمريكي للعراق وانتشار الفوضى، في إثر تفكيك مؤسسات الدولة والأمن وحل الجيش النظامي وتسريح آلاف الجنود والمسؤولين السنَّة، سخطًا عارمًا في أوساط العراقيين السنّة الذين جُرِّدوا من المزايا التي كانوا يستفيدون منها في ظل نظام حزب البعث، بينما وجد الهاربون من أفغانستان في العراق الفوضى الكبيرة والأرض الخصبة لنقل نشاطهم إليها.

أدى الزرقاوي يمين الطاعة لبن لادن، وأضحت جماعته الجناح الرسمي لتنظيم القاعدة في العراق رغم الاختلافات بين الزرقاوي وقيادة القاعدة. وقد أجمعت روايات مختلفة أنهما لم يكونا على وفاق بسبب العنف الزائد عند الزرقاوي وهجماته الاستفزازية على المساجد والأسواق الشيعية، وما نجم عنها من مجازر طائفية. فقد تميَّز الزرقاوي بكرهه الزائد لكل ما هو غير سني، إذ كان لديه اقتناع بأن قتل الشيعة وقيام حرب أهلية بين الشيعة والسنَّة من شأنه إعادة الهيبة والمجد إلى الخلافة الإسلامية لبغداد. لم يكن هناك اتفاق بين بن لادن والظواهري مع الزرقاوي على مفهوم الحرب المدنية وطريقته الهمجية لقتل الشيعة فقد كان الزرقاوي أول من بدأ عمليات قطع الرؤوس العلنية، وكان شغوفًا بنشر المشاهد الوحشية المروعة على الملأ، وهوما أثار استنكار قيادة القاعدة، التي تخوَّفت من وقع ذلك على الرأي العام في العالم الإسلامي. هذا ما دفع الكثير من رجال القاعدة إلى مطالبة أسامة بن لادن بإعلان التبرؤ من تنظيم القاعدة في العراق  إلا أن بن لادن كان يرى أهمية هذا الفرع. وبعد مدة وجيزة أعلن الزرقاوي عن نيته إقامة «دولة إسلامية»، مخالفًا بذلك تعليمات تنظيم القاعدة له للانتظار إلى مابعد انسحاب الأمريكيين، وإلى حين يتمكَّن تنظيم القاعدة في العراق من كسب التأييد الشعبي لإقامة الدولة. في شهر حزيران/يونيو من السنة نفسها قُتل الزرقاوي في غارة جوية أمريكية، ووقع الاختيار على «أبو أيوب المصري»، المعروف أيضًا بـ «أبو حمزة المهاجر» فأصبح أمير التنظيم في العراق بادر أبو حمزة مباشرة إلى إعلان البيعة لأسامة بن لادن، كنوعٍ من استمرار التوجُّه الذي بدأه سلفه."لم يمضِ وقتٌ طويل حتى تغيَّرت الأمور بدءًا بتأسيس «دولة العراق الإسلامية» وفي 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2006، استبدل بـ «مجلس شورى المجاهدين» «دولة العراق الإسلامية»؛ التي تضم بحسب مؤسسيها محافظات: بغداد والأنبار وديالى وكركوك وصلاح الدين ونينوى وأجزاء من محافظتي بابل وواسط ورُشِّح أبوعمرالبغدادي، العراقي الأصل للإمارة ليكون بذلك زعيم التنظيم بينما اختير أبو حمزة المهاجر وزيرًا للحرب ونائبًا للبغدادي. في ثنايا آليات تأسيس تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، لم يكن التيار العراقي منضويًا تحت مظلة تنظيم القاعدة فقد بايع أبو حمزة المهاجر، في تشرين الثاني/نوفمبر 2006، أبو عمر البغدادي، زعيم التنظيم، ملغيًا بذلك أي بيعة كان قد أعلنها المهاجر نفسه، أو الزرقاوي قبله، لبن لادن. كذلك، لم يبايع أبو بكر البغدادي ـ خلف أبو عمر البغدادي ـ أبدًا تنظيمالقاعدة علنًا بعد أن تسلَّم قيادة تنظيم «دولة العراق الإسلامية» في أيار/مايو 2010، فأصبحت العلاقة بين التنظيمين غير واضحة، وإن أكَّد الظواهري في إحدى رسائله أن البغدادي بايعه سرًّا حتى تم إعلان القطيعة نهائيًّا في 2014. قام تنظيم «دولة العراق الإسلامية» بملء فراغات السلطة في المناطق العراقية السُّنيَّة، بما يحتاج إليه ذلك من خبرة بالمناطق وامتلاك المعلومات، ووجود تنظيم يدير دولته بشكل شبه كامل، والقدرة على توفير تمويلات كبيرة وصلت إلى أكثر من 100 مليون دولار سنويًّا. كانت رؤية التنظيم تعطي الأولوية للسيطرة على المناطق وإخضاعها لنفوذه، وهو ما أدخله في صدام مع العشائر السنية التي تهدَّدت مصالحها وتعرَّض أبناؤها لاغتيالات وتفجيرات. في أثر ذلك تم تأسيس الصحوات بهدف محاربة تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، بعدما لجأ الأمريكيون إلى إقناع العشائر السنية في محافظة الأنبار، غرب العراق، لوقف دعم «الجهاديين» والانضمام إلى مسعى الحكومة العراقية والتحالف بقيادة الولايات المتحدة لإخماد نشاط المسلَّحين. وقد انضم إليهم الكثيرون بالفعل، بعد حصولهم على وعود بالحصول على وظائف وضمان أمنهم الخاص. ومع توالي الضربات، فقَدَ تنظيم «دولة العراق الإسلامية» الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرته، وسُجن الكثير من قياداته ورجاله، وقتل أبو عمر البغدادي، ونائبه أبو حمزة المهاجر في عام 2010 بعد تطويق قوات أمريكية. ليتولَّى بعدهما أبو بكر البغدادي، قيادة التنظيم الذي دخل مرحلة جديدة، لم تكن سوى استمرارية لما بدأه المؤسس أبو مصعب الزرقاوي."

ووفر اندلاع الحرب في سورية، في 2011، أرضًا خصبة لنقل معارك علنية إليها، ومنحت الحرب السورية الفرصة لمختلف التنظيمات المسلحة لتأمين مجندين حيث بدأ المقاتلون من السعودية وليبيا وتونس والجزائر والمغرب واليمن والخليج يتدفَّقون للانضمام وحصولهم على الأسلحة والتمويل اللازم، في إطار صراعات القوى الإقليمية والدولية على الأراضي السورية. وشمل ذلك تدفق أعدادٍكبيرة من المقاتلين الأجانب المهيئين لمساعدة هذه التنظيمات على الفوز في معاركها ضد نظام الرئيس بشار الأشد وإدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتها. وعلى الرغم من أن عوامل كثيرة قد حرَّكت هذه التعبئة، فإن موقع تركيا الاستراتيجي في المنطقة وحدودها المفتوحة مع سورية قد مثَّلا العاملين المساعدين الأكثر أهمية، فقد استمر تدفُّق المقاتلين عبر هذه الحدود دون عوائق حتى ربيع عام 2015 عندما بدأت أنقرة، بضغط من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. وعندما قرر التنظيم إحياء نشاطه داخل العراق لم تواجهه أيَّ صعوبات لما لاقاه من تأييد من طرف الخلايا النائمة للجهاديين السلفيين والمسلحين الذين كانوا تابعين للرئيس العراقي صدام حسين في السابق، وغيرهم من المتعاطفين معهم، وهو ما مكَّنه من بسط نفوذه. يوم 29 حزيران/ يونيو 2014، من خلال قرار اتخذه «أهل الحل والأعيان والقادة»، إقامة «الخلافة الإسلامية» وتنصيب أبو بكر البغدادي «إمامًا وخليفة للمسلمين في كل مكان». وتمَّت دعوة الفصائل الجهادية في مختلف أنحاء العالم لمبايعته وقد تم حذف كلمتي «العراق والشام» من اسم التنظيم ليصبح فقط «الدولة الإسلامية»، التي أصبحت في هذه الحقبة ممتدة جغرافيًّا من محافظة حلب السورية في الغرب، إلى محافظة ديالى العراقية في الشرق، على مساحة شبه متلاصقة تمتد على أكثر من 670 كيلومترًا وبعدد سكان يقارب 6 ملايين نسمة مستقرين على الأرض، بغضِّ النظر عما إذا كانوا مؤيدين للتنظيم أورافضين لهيمنته. وهو ما يعَدّ عملًا بطولًّيا وفقًا للمعايير الجهادية المعاصرة.

بعدما انهزم تنظيم «الدولة الإسلامية» عسكريًّا وخسر كل الأراضي التي كان يسيطر عليها، لكنه ربما كان على ثقة منذ أول يوم أن مشروعه لن يدوم طويلًا، وربما كان واثقًا أيضًا بأن دولته أسِّست لتسقط؛ لذلك كان رهانه الحقيقي ليس على الجغرافيا ولكن على الأيديولوجيا التي أسَّس لها وزرعها في عقول الأجيال، وهي التي ستبقى وستتمدَّد رغم كل الهزائم. من هنا، يجب الإقرار بأن خطر التنظيم يكمن أساسًا في الفكر الذي أسَّس له وليس الجغرافيا التي بسط دولته عليها. فما مهَّد له البغدادي من خلال إعلان «الخلافة الإسلامية» يجعل التنظيم قادرًا، حتى من دون أرض يبسط عليها نفوذه، على التجزؤ إلى فروع موزَّعة في كل أنحاء العالم، ويجعل جيوبه وخلاياه النائمة مستعدة لتنفيذ أوامره ومقاتليه قادرين على إعادة تنظيم الصف، إن لم يكن في سورية أو العراق فربما في مناطق صراع أخرى.

اقترن اسم تنظيم «الدولة الإسلامية» بخوارج العصر وأخذه في بعض المواضع بالوهابية التي تستقي أحكامها من فكر ابن تيمية ـ والتي يمكن القول إنها انتهت تاريخيًا مع تأسيس المملكة العربية السعودية، وبخاصة بعد 1928م والصدام الشهير بين عبد العزيز بن سعود والإخوان الوهابيين ـ ويعتبر الخوارج هم الأصل في التشدُّد والتكفير والخروج على الحاكم وتنظيم «الدولة الإسلامية» يمثِّل اليوم، وجهًا آخر، للفكر المتشدِّد نفسه الذي أسَّس له الخوارج، فهو يكفِّر الناس ويستبيح دماءهم، وأموالهم، مثلما فعلت كل طوائف الخوارج من قبلهم.

ويعَدّ كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب هو كتاب العقيدة الذي يدرَّس عند تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد أكدالتنظيم، اتِّباعه التيار الوهابي. ففي المنشورات الرسمية لتنظيم الدولة، دائمًا ما تكون هناك إشارة للمرجعية الفكرية الوهابية.

وقد اقتبس تنظيم «الدولة الإسلامية» من فكر الوهابية، مجموعة من المفاهيم ومنها: كانت أولى فتاوى ابن عبد الوهاب التي كانت تنص على تكفير المسلمين الذين يخالفون آراءه ولا يعتنقونها قوله: «من ولِي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة، وجبت طاعته وحرم الخروج عليه». قامت الحركة الوهابية ما بين عامي 1904 و1925، بتطهير الجزيرة العربية، وبالخصوص مكة والمدينة المنورة، حسب زعمهم، من البدع والآثار التكفيرية المتمثِّلة بالمراقد الإسلامية ذات القدسية لدى المسلمين كافة، مثل قبور البقيع والمساجدالقديمة؛ قام تنظيم «الدولة الإسلامية» بهدم ما اعتبره رموز الشرك، وبخاصة أضرحة الصوفية والشيعة والمواقع الأثرية. وبعد الاستيلاء على مدينةٍ ما.

أيضاً فكرة «الولاء والبراء» كنظرية عقدية استكملت شكلها المتماسك مع ابن تيمية، وبعده محمد بن عبد الوهاب، وصارت أحد الأسس التي تقوم عليها الوهابية. وقد عكس ابن عبد الوهاب هذا المبدأ عندما كتب قائلًا: «الإنسان لايستقيم له إسلام ولو وحَّد الله وترك الشرِك، إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبُغض». واعتبر محمد بن عبدالوهاب أن «أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأول، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. والثاني، الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه وتكفير من فعله». وبالنسبة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» فهو ذهب في تفسيره لعقيدة «الولاء والبراء» بالقول بالولاء والموالاة لكل متعاطف مع التنظيم والبراء من كل شخص لا ينتمي إليه، وبالتالي قتله.

عداءهم للشيعة يتَّفق تنظيم «الدولة الإسلامية» والوهابية أيضًا في عدائهما للشيعة. كتب ابن عبد الوهاب أن «أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة». في عام 791م، هاجم الوهابيون المناطق الشيعية في شرق السعودية، وقتلوا نحو 1500 شخص. وقعت مذبحة أخرى ضد الشيعة في عام 1802، حين غزا الوهابيون مدينة الأضرحة الشيعية كربلاء في العراق، حيث تم تدمير الرموز الشيعية المقدَّسة. وقد بعث قائد الحملة، وهو حفيد محمد بن سعود برسالة إلى الحاكم العثماني في العراق لتوضيح دوافع عمله: «وقولك إن أخذنا كربلاء وذبحنا أهلها وأخذنا أموالها، فالحمد لله رب العالمين، ولا نعتذر من ذلك، ونقول: ﴿وللكافرين أمثالها﴾. ومنهم من اعتبر الشيعة «رمز الخيانة»، مستشهدين في ذلك بقول ابن تيمية: «أصل كل فتنة وبليَّة هم الشيعة ومن انضوى إليهم، وكثير من السيوف التي سُلَّت في الإسلام إنما كانت من جهتهم. ومن جانب آخر ألهم ألهم فكر سيد قطب التنظيمات المتطرفة كافة التي ظهرت منذ ستينيات القرن الماضي، فكان العباءة التي خرجت منها جماعة التكفير والهجرة، والجماعات الإسلامية، والقاعدة في أفغانستان، وصولًا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد تشرَّبت قيادات هذه التنظيمات من الفكر القُطبي.

دشَّن فكر سيد قطب الشروط الموضوعية لظهور جماعات الجهاد والتكفير في المجتمع المصري، كما أثرت أفكاره في المنظرين والمرجعيات الذين يستند إليهم تنظيم القاعدة، ويُعَد فعليًّا عرَّاب كل التنظيمات المتطرفة.

بدأ العالم يتعرَّف إلى وحشية تنظيم الدولة، عندما قطع رؤوس صحافيين وعمَّال إغاثة. وسعى التنظيم إلى تبرير العنف الجنسي بزعم أن الإسلام يبيح ممارسة الجنس مع «الإماء» غير المسلمات، بمن فيهن الفتيات، إضافة إلى ضربهن وبيعهن.

إن الغرض من عرض هذه النماذج من الأحكام والعقوبات التي انتهجها تنظيم الدولة، ليس بغرض الدعاية للتنظيم ولكن من أجل إبراز وحشيته، حيث عمد على تطبيق عقوباتٍ غريبة وشاذة لهدفين: أولًا، جذب انتباه الإعلام والرأي العام العالمي لقوة التنظيم والرغبة في ردع أعدائه؛ ثانيًا، استقطاب الشباب المخدوع بشعار تطبيق الشريعة أو المتعطِّش لروح المغامرة ومشاهد الدم، في الوقت نفسه الذي عمل التنظيم على إضفاء مشروعيةٍ دينية على أفعاله من خلال تسليط الضوء على حوادث مماثلة في التاريخ الإسلامي.

وهدفه من ذالك إعطاء الشرعية لجرائمة الشنعية وترسيخ فكرة أنه يمثل إمتداداً حقيقاً للإسلام وليس مجرد تنظيم طفيلي له تعاليمه الخاصة. يتمتَّع مقاتلو تنظيم «الدولة الإسلامية» بمهارة عالية في فنون القتال فهم يستعملون المدفعية والمدرَّعات والمعدَّات الثقيلة وما إلى ذلك ويجيدون استخدامها ما دام من يشرف على تدريبهم هم ضباط سابقون على دراية بالحرب التقليدية ويعرفون كيف تخطط وكيف تهجم وتدافع. ولولا الأيدي الخفية لضبَّاط صدام حسين قد ساعد في ظهور تنظيم الدولة، بعدما عقد البعثيون السابقون والمجاهدون في العراق تحالفًا فيما بينهم. مؤكدين أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لم يكن لينجح في التمدُّد على الأرض وبسْط سيطرته عليها لو لم يدخل في شراكة مع أعضاء حزب البعث السابقين؛ فقوة التنظيم، رغم ما مُني به من هزائم لاحقًا، تكمن في أنه كقوة قتالية أقوى كثيرًا من مجرد مجموعة من المرتزقة أو من المتطرِّفين المندفعين أو المتلهِّفين فقط لتفجير أنفسهم وكسب ثواب الاستشهاد، بل هو أذكى من ذلك. فقد نجح في أن يحتل الصدارة في صفوف التنظيمات الجهادية، وأن يحتل الأرض ويقرَّ فيها نظامه الأصولي، وأن يصدِم العالم بقوته وإصرار مقاتليه. كما استطاع إحداث تحوُّل أيديولوجي، مازجًا بين الأفكار الجهادية والطرائق الأمنية لجهاز الاستخبارات العراقية السابقة، والتكتيكات العسكرية البعثية، فتمخَّض عن تنظيم أشبه بالدولة.

هناك مصلحة مشتركة بين ضباط حزب البعث السابقين وبين تنظيم «الدولة الإسلامية» وهي إنشاء دولة تعبِّر عن المواطنين السنّة في العراق وسورية."وقد وفَّر لها تنظيم «الدولة الإسلامية» ذلك لما أبداه من عداء كبير للشيعة وميراثهم الإقصائي في العراق ما بعد صدام. بينما كان التنظيم يحتاج، من جهته، إلى عقل عسكري وحاضنة شعبية سنية تدعم مشروعه وتوفر له الغطاء الاجتماعي الكافي، وهذا ما قدَّمه البعثيون إليه.

تنظيم الدولة ليس نباتًا شيطانيًّا، ولم يأتِ من العدم، بل إن فكره موجود داخل كتبنا ومراجعنا الإسلامية. فهو يذهب إلى التراث الإسلامي يأخذ منه ما يستجيب لتوجُّهاته ويحقِّق مشروعه، ويطبقه بتشدُّد بحجة أنه يطبِّق الشريعة الإسلامية، وهذا ما يجعله مقبولًا عند البعض ويجعل له موالين من كل العالم والأسوأ أنه يستعمل النصوص الدينية نفسها والتراث الإسلامي لتبرير فظاعاته ووحشيته على نحوٍ ربما سيسمح لتنظيمات مماثلة أن تحاكيه في المستقبل. لم يخترع تنظيمُ الدولة «العنفَ»، لكن اجتهد في البحث داخل التراث عن صور شبيهة وأخرجها من سياقها التاريخي وطبَّقها في عصر ليس عصرها، وبصورة غير تلك التي كان عليها في الماضي الذي اجتُرَّت منه، وهدفه من ذلك تحقيق ثلاثة عناصر: الإيهام بتطبيق الشريعة لصون الكرامة وتصدير صورة الصرامة والقوة لترهيب العدو وجذب المتعاطف والتغلب بمظاهر القوة على نقاط الضعف. وقد فسَّر التنظيمُ النصوصَ القديمةَ والأحاديثَ الغامضةَ بطريقته الشاذَّة ليشرْعِن فظائعَ جرائمِه ودمويته. فالأفكار المتطرِّفة تظل قابعةً في الجانب المظلم من التاريخ حتى يأتي من يخرجها من سياقها ويمنحها قوة الفعل وقوة الحاضر، وهذا ما قام به ـ تحديدًا ـ تنظيم «الدولة الإسلامية».

ومن أسباب التطرُّف وحواضِنُه استغلّ تنظيم «الدولة الإسلامية» حالةَ الفوضى التي عرفتها المنطقة بعد أحداث 2011، بل استغل أيضًا حالةَ الفراغِ الفكري والسياسي التي خلَّفها انهيار الأيديولوجيات السياسية المتلاحقة، بدءًا من الشيوعية ثم الاشتراكية والقومية، إلى الديمقراطية التي تعثَّرت في البلدان العربية بينما باتت تفرز نخبًا يمينية متطرِّفة في الدول الغربية. في ظل هذا الفشل السياسي، إضافة، إلى فشل النموذج الاقتصادي الذي خلَّف انتشارَ الفساد وغياب العدالة الاجتماعية، ومع اتِّساع رقعة الحروب والتوتُّرات وتزايد المظالم، تفاقَم إحساسُ الغضبِ الذي بات يسيطر على مشاعرِ الكثير من المحبَطين حول العالم، ما ساعد تنظيم الدولة على الاصطياد في الماء العكر وتجنيد الآلاف من المقاتلين؛ وكسْب تعاطُف ربما آلاف آخرين؛ ممن هجروا حياتهم وذويهم، وهاجروا إلى حيث «الخلافة»، كنوعٍ من الهروب من كل الأيديولوجيات السياسية والاقتصادات الفاشلة، إلى دولة الإسلام المزعومة، حيث العدالة وتطبيق الشريعة
استطاع تنظيم «الدولة الإسلامية» تجنيد مقاتلين من كل العالم. وكان هدفُه إغراءَ الكثير من اليائسين والغاضبين لتبنِّي أطروحته، بل الموت من أجلها، وهو ما وضع العالم الإسلامي والغرب أكثر فأكثر، أمام صدمة السؤال: «كيف اخترق هذا التنظيم الدموي ثقافتنا وجنَّد أبناءنا؟» وبعدما وصل تنظيم الدولة إلى جُل دول العالم، بطبقاته المتنوِّعة وثقافاته المختلفة، وجنَّد شبابًا من مختلف الأعمار والبيئات، بات مؤكَّدًا أن الأزمة ليست أزمة إسلام ولا مسلمين، إنما هي أزمة عالمية تتداخل في الكثير من الأبعاد والأسباب والدوافع، لكنها أفرزت شيئًا واحدًا: الإرهاب. أول الأسئلة التي يجب طرحها هي: كيف نجح التنظيم في استقطاب هؤلاء المقاتلين من كل أنحاء العالم؟ وما الأسباب والدوافع الذاتية والمؤثرات الخارجية التي دفعت شبابًا من مختلف الفئات العمرية إلى الذهاب إلى المجهول من أجل الالتحاق بتنظيم لا يكاد يُخفي وحشيته وشراسة عقوباته؟ وكيف يغادر شبان صغار ـ ليس لهم حظ من التديُّن ـ بلدانهم، للالتحاق بتنظيم يمارس عليهم أقصى أنواع غسيل الدماغ والتغيير المفاهيمي؟ وكيف يرى هؤلاء الشباب حياتهم ومستقبلهم داخل التنظيم وخارجه؟ هذه الأسئلة، على قدْر أهميتها فإن هناك صعوبة في تحديد أجوبة دقيقة لها، لعدم توافر قاعدة بيانات ومعلومات كافية عن خلفية هؤلاء المقاتلين، وبخاصة العرب منهم، حيث هناك تكتُّم شديد على المعلومات المتعلقة بهم وببياناتهم الشخصية، وشبه غياب لأبحاث ميدانية في هذا المجال، على عكس المتوافر في دول الغرب.

فـ أهم خطوة في طريق المواجهة الفعلية لتنظيم «الدولة الإسلامية»، ومواجهة ظاهرتي التطرُّف والإرهاب، بصفة عامة، التي باتت تؤرّق العالم وتقضُّ مضجعه وتهدِّد أمنه وسلامته.

 

في أواخر الثمانينيات انتشر مصطلح «المقاتلون الأجانب» في وسائل الإعلام الغربية واستخدم لوصف المقاتلين العرب الذين سافروا إلى أفغانستان لدعم «المقاومة» ضد السوفيات، كما عاد هذا المصطلح إلى الانتشار بداية من عام 2001 بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر والحرب التي شنَّتها الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان والعراق. انتقلت ظاهرة المقاتلين الأجانب من الغرب إلى أفغانستان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي وأخذت بُعدًا أيديولوجيًّا، حيث أُطلق على هؤلاء الوافدين من مجموعة من دول الخليج ومصر وباقي الدول العربية اسم «الأفغان العرب»، أو «المجاهدون الأنصار» كما يسمون هم أنفسهم. ومن أفغانستان توسَّعت دائرة المجاهدين، أو بالأحرى المقاتلين، لتنتشر في مناطق توتر جديدة. وفي 27 كانون الأول/ديسمبر 1979، احتلت القوات الخاصة الروسية الأبنية الحكومية والعسكرية والإذاعية الرئيسية في العاصمة كابول وشجَّعت الولايات المتحدة الأمريكية، بتحالف مع السعودية وباكستان، الشبابَ الإسلامي على الانخراط في قوافل ما سمِّي المجاهدين الذين اعتبرتهم «مقاتلين من أجل الحرية» للاشتراك في الحرب على السوفيات (أعداء الإسلام)، وفتحت أراضيها من أجل تجنيدهم وتدريبهم. لهذا الغرض شيدت المعسكرات. وتم إرسالهم للقيام بعمليات عسكرية من الأراضي الباكستانية، بينما سمحت الحكومات العربية الصديقة للولايات المتحدة، التي تخشى المدَّ الشيوعي، لكثير من المتطوعين من مواطنيها بالسفر للاشتراك في تلك الحرب . وفي سنة 1981 وصل إلى باكستان «أول الأفغان العرب» وبعدها بداء استقطاب واستقبال المتطوِّعين العرب من خلال مكتب خدمات المجاهدين وأخذت أعداد المجاهدين العرب تتزايد بالمئات خلال 1982 ـ 1984، ثم بلغوا الآلاف . في الوقت نفسه انتشرت فتاوى وجوب الجهاد ضد القوات الشيوعية في أفغانستان  وعملت مؤسسات دينية وبعض الدعاة من جماعات الإسلام السياسي على تجييش المشاعر الدينية. في الوقت نفسه، انتشرت كتب وتسجيلات التي تدعو فيه المسلمين إلى الانخراط في العمل الجهادي، على أساس أن الجهاد في أفغانستان «فرضُ عيْن» على جميع المسلمين. وتوافد «المجاهدون العرب» على أفغانستان من 22 بلدا . وعلى الرغم من افتقارهم إلى الخبرة العسكرية واللياقة البدنية، بل كان الكثير منهم يلمس السلاح لأول مرة في جبهات القتال ذاتها، إلا أن الأوضاع تطوَّرت بإنشاء معسكرات للتدريب؛ تشير بعض التقديرات إلى النجاح في تدريب أكثر من 100 ألف مسلَّح في هذه المعسكرات. تورَّط السوفيات في حربٍ استمرت أكثر من 10 سنوات انتهت بانسحابهم من أفغانستان في عام 1989، وتورَّط العالم أجمع في آلاف المقاتلين المدرَّبين الذين لم تُنهِ الحرب دورهم ورغبتهم في «الجهاد»، فقد قرَّر بعضهم العودة إلى بلدانهم وممارسة العنف ضد حكوماتهم، وهو ما أسفر عن عمليات قتل واغتيال وتدمير. بينما انغمس بعضهم الآخر في الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين فصائل المجاهدين في أفغانستان. وقرر البعض الذهاب إلى مناطق أخرى من العالم للقتال مع «شعوب مسلمة» في غمرة الاقتتال الأفغاني ـ الأفغاني بدأ نجم حركة طالبان في الظهور عام 1994، وانضم معظم العرب إليهم واشتد ساعد طالبان بعودة الجهاديين إلى أفغانستان، بمن فيهم بن لادن الذي عاد من السودان عام 1996 حيث قووا حركة «الأفغان العرب» وأسَّسوا تنظيم القاعدة المتحالفة مع زعيم طالبان
فمع حكم طالبان رأت بعض فصائل «الأفغان العرب» توجيه جهودها إلى «العدو البعيد» من خلال محاربة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقود ـ وفقًا لما يدَّعون ـ «تحالفًا دوليًّا صليبيًّا على الإسلام»، ثم جاء تصريح بن لادن عام 1998: «لو استطاع أحد قتل أي جندي أمريكي، فهو خير له من تضييع الوقت في أمور أخرى».

وفي شباط/فبراير من السنة نفسها أعلنت «الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين» التابعة لشبكة بن لادن، نيَّتها مهاجمة الأمريكيين وحلفائهم، بما في ذلك المدنيون في أي مكان من العالم. وفي 11 أيلول/سبتمبر 2001 اتَّهمت الولايات المتحدة بن لادن بتدبير الهجمات التي وقعت على مركز التجارة العالمية ومبنى البنتاغون، وخاضت حربها ضد حركة طالبان، ودمَّرت ما تعتقد أنه قواعدُ لتنظيم بن لادن في أفغانستان. ومنذ ذلك التاريخ تغيَّرت أوضاع «المجاهدين العرب» كما تغيرت أوضاع سياسية وعسكرية كثيرة في أفغانستان والمنطقة ككل.

من خلال سرد هذه الوقائع المختصرة من تاريخ ظاهرة المقاتلين الأجانب، إذا كانت «الألوية الدولية» قد جنِّدت من طرف الأحزاب الشيوعية في العالم، فإن «المجاهدين» العرب صنيعةُ الاستخبارات الأمريكية التي شجَّعتهم ودعمتهم واعتبرت، في وقت من الأوقات، أنَّ تنامي أنشطة الجماعات الجهادية هو عرَضٌ جانبي طفيف يمكن احتماله، إذا ما قورن بمكسب إسقاط العرش السوفياتي، وتربُّع الولايات المتحدة منفردة على عرش العالم. لكن العرش الأمريكي كلَّف العالم حربًا بدأت في أفغانستان ووصلت شظاياها إلى العالم ككل، وأول من اكتوى بنارها هو أمريكا نفسها، مرة في أفغانستان، ومرة في العراق، ومرات متعددة في عقر دارها، بعدما أعطت الفرصة لخلق «ثقافة الجهاد العالمي».

ومن هنا ننتقل الى العراق فبعد اجتياح العراق من جانب الولايات المتحدة في عام 2003، استدعي المقاتلون الأجانب مرةً أخرى إلى الحرب؛ وقد كانوا مجموعتين: مجموعة دخلت العراق في الأيام الأولى للحرب وأثناءها، ومجموعة ثانية دخلت بعد احتلال العراق. بالنسبة إلى المجموعة الأولى فقد دخلت العراق مع بداية الحرب عبر الحدود العراقية ـ السورية، بجوازات سفر أصلية، بناء على الدعوة التي وجهها الرئيس العراقي الراحل صدَّام حسين لكل من يرغب في الجهاد ضد الولايات المتحدة و«قوى الكفر» (كما كان يُطلق عليها). ويتكون هؤلاء المجاهدون من خليطٍ من مختلف الأقطار العربية ومن مختلف الأعمار، لا يوحِّدهم سوى الرغبة في الجهاد ونيل الشهادة، والعداء للولايات المتحدة التي يرونها العدو الأول للإسلام والمسلمين. وبالنسبة إلى المجموعة الثانية من المقاتلين، فقد تألفت من مقاتلي القاعدة، أو كما أطلقت عليهم قوات الاحتلال «الإرهابيين الأجانب» الذين دخلوا العراق بعد احتلاله. وهم خليطٌ من مقاتلين عرب وأجانب جمَعهم هدف مشترك هو البحث عن أرضٍ للجهاد. وقد وجدوا في العراق أفضل ساحة لمجابهة «الكفَّار» حسب الدعوة التي وجَّهها بن لادن إلى القاعدة والمسلمين للذهاب إلى العراق.
وقد ذكر بول بريمر ـ قائد سلطة الائتلاف المؤقَّتة في العراق بعد سقوط نظام صدَّام ـ أن معظم «الإرهابيين» (المقاتلين الأجانب) يأتون عبر الحدود السورية وبعضهم عبر الحدود السعودية وعدد قليل من إيران، وهم خليط من السوريين والسعوديين واليمنيين والسودانيين وآخرين
بعد تحوُّل العراق إلى حُكم الأغلبية الشيعيَّة، تحوَّل الصراع فيه من صراع مقاومة المحتل إلى صراع طائفي، وحدث انشقاق بين «الجهاديين» الذين ارتبط أكثرهم بالقاعدة ومقاتلين جدد باتت تُحرِّكهم استراتيجيات تقتات، أساسًا، على الطائفية. عندما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية العراق عام 2003 ودمَّرت تمثال صدام حسين، دمَّرت معه جدار الصدِّ الذي كان يقف أمام تمدُّد إيران، التي بدأت تمثل تهديدًا لأنظمة المنطقة منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، وبسقوط نظام صدَّام حسين وتمكين الأغلبية الشيعية من السلطة، باتت يد إيران تتغلغل في السياسة العراقية، وزاد هذا التغلغل مع تسليح إيران لقوات الحشد الشعبي، التي هبَّت للدفاع عن بغداد والجنوب، وتدريبها وتوجيهها، وهو ما زاد من هواجس أنظمة الخليج التي رأت أن التغلغل الإيراني في العراق يُنذِر بإقامة «هلال شيعي»، يربط إيران بالعراق وسورية التي تحكمها الأقلية العلوية ولبنان الخاضع لهيمنة حزب الله. ومع اندلاع الحرب في سورية، دعمت دولُ الخليج وتركيا التنظيماتِ السنيةَ في الساحة السورية، على أمل أن تُفضي الإطاحة بنظام الرئيس الأسد إلى إقامة حُكم الأغلبية السنية، ما يعكس امتداد محورٍ سنِّيٍّ من الشمال إلى الجنوب، من تركيا مرورًا بسورية إلى الأردن والسعودية، ما كان سيشكل ضربة قاصمة لنفوذ إيران في المنطقة، لكن نظام الرئيس الأسد استطاع أن يظل صامدًا وقائمًا، بينما تناحرت مختلف التنظيمات المتطرفة التي تم دفعها للقتال في سورية، ما أدخل المنطقة في موجة عنف لامثيل لها.

وبعدها انتقلت الحرب الى سورية فدفعت الحرب في سورية إلى استقطاب آلاف المقاتلين عبر العالم، ليس فقط من الشبكة الجهادية القديمة، وإنما أيضًا أطرًا جديدة من المقاتلين ممّن لم يختبروا القتال سابقًا. وسرعان ما تفوقت سورية على أفغانستان والعراق، وأصبحت أكبر تجمع للمقاتلين الأجانب في مكانٍ واحد في التاريخ. مقاتلون يمثِّلون أكثر من 100 دولة. هناك شبه إجماع على أن جبهة سورية تتفوَّق على الجبهات كافة التي نشأت كساحاتٍ لاجتذاب المقاتلين الأجانب، كأفغانستان أو البوسنة أو العراق. ولم يكن هناك أي اهتمام دولي بظاهرة المقاتلين الأجانب في سورية إلى حدود 2013 عندما أعلن تنظيم البغدادي عن تأسيس «داعش»، وقتها فقط بدأ العالم ينتبه لظاهرة المقاتلين الأجانب، وبدأ يفرض على تركيا غلق منافذها نحوها. من ناحية أخرى، التضارب في الأرقام مفاده أن هناك دولًا قَّللت من حجم الظاهرة داخل دولها حتى لا تثير الانتباه حولها، في وقت بالغت فيه دول أخرى في استثمارها سياسيًّا في التخويف من خطر «الإرهاب» لديها للحصول على تمويلات أكبر للقضاء على الظاهرة داخليًّا بغضِّ النظر عن هذه الأرقام المتضاربة، كان الدافع الرئيسي المعلَن للذهاب إلى سورية، في الأيام الأولى للحرب السورية، هو محاربة نظام الرئيس بشار الأسد دفاعًا عن الشعب السوري «المظلوم». لكن تغيَّر الهدف، بعد ذلك، وأصبحت الرغبة في الذهاب إلى سورية بداعي «الهجرة» والعيش في إطار «الدولة الإسلامية» وتحت راية «الخلافة». وقد أسهم في تعزيز هذه الرغبة، الصورة الإعلامية لتنظيم الدولة التي صوَّرت الحياة في «الدولة الإسلامية» كأنَّها دار الخلاص من الظلم والإقصاء وأنها دار العدالة وتطبيق الشريعة والتبشير بالجنَّة، كما صوَّرت خلافتها بأنها خلافة «آخر العالم»

ومنذ ذلك الوقت، بدأ تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين»، الذي تحوَّل اسمه إلى تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، ثم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وبعدها تنظيم «الدولة الإسلامية»

بعد ذالك أصدر التنظيم أول مجلة له عبر الإنترنت، شهرًا واحدًا بعد إعلان الخلافة، اختار لها اسم دابق، تيمُّنًا بحديث نبوي شريف يشير إلى إحدى علامات الساعة التي تسبق نهاية العالم.

وفي أول خطاب بعد تنصيب أبو بكر البغدادي «خليفة»، ركز على الدعوة للهجرة والجهاد قائلًا: «هلمُّوا إلى دولتكم أيها المسلمون.. فليست سورية للسوريين وليس العراق للعراقيين إن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتَّقين. الدولة دولة المسلمين والأرض أرض المسلمين كل المسلمين، فيا أيها المسلمون في كل مكان من استطاع الهجرة إلى الدولة الإسلامية فليهاجر فإن الهجرة إلى دار الإسلام هي واجبة ففرّوا أيها المسلمون بدينكم إلى الله مهاجرين ومن يهاجر في سبيل الله يجد سَعة كبيرة في أرض الله ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورًا رحيمًا». ركَّز الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي بندائه للمسلمين وخصَّ بطلبه هذا فئة معينة من «المهاجرين»، حيث قال: «نخص بدعوتنا طلبة العلم والعلماء والفقهاء وعلى رأسهم القضاة وأصحاب الكفاءات العسكرية والإدارية والخدمية والأطباء والمهندسين في كافة التخصصات والمجالات».

في ما يتعلَّق بالمقاتلين الغربيين، ليسوا كلهم من المهاجرين، بل من الجيلين الثاني والثالث، ممن ولدوا في أراضي الغرب وتشرَّبوا مبادئ التعليم والهوية والثقافة الغربية، لكن في لحظة تاريخية معينة انقلبوا على هذه الثقافة وعلى مبادئ الحرية والديمقراطية التي شبُّوا عليها، وتخلوا عن حياتهم المألوفة واختاروا بدل ذلك الهجرة إلى سورية، لا لشيء سوى لأنهم «يكرهون بلدانهم ويريدون تجربة الفرق، وتنظيم الدولة يمنحهم ذلكـ«. وإضافة إلى العرب المسلمين وأبناء الجيلين الثاني والثالث في دول المهجر، هناك فئة أخرى من المقاتلين الذين ليس لديهم أي أصول عربية أو إسلامية، بل هم من المتحوِّلين من المسيحية، وبعضهم من اليهودية، إلى دين الإسلام وهؤلاء أيضًا يشكِّلون نسبة لا بأس بها من مجموعات المقاتلين القادمين من الدول الغربية، الذين التحقوا بصفوف تنظيم الدولة وانخرطوا فعليًا في أعماله الوحشية.

لم يخْفِ تنظيم «الدولة الإسلامية» وحشيته ودمويته التي طالما نقلتها عدسات كاميراته ونشرتها المواقع الخاصة به في رسائل علنية وواضحة مفادها إظهار قوة التنظيم أمام العالم، من ناحية  وترهيب أعدائه، من ناحية أخرى. فوجد الآلاف من الشباب العربي والغربي ضالتهم في تنظيم الدولة الذي يختلف عن سابقيه ليس فقط في وحشيته واستراتيجيته الصادمة، ولكن، أيضًا، في نوعية الأشخاص الذين نجح في استقطابهم وتجنيدهم، من فئة الشباب صغير السن، أكثر فأكثر ومن كل الجنسيات، ومن مختلف الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية. وهدفهم جميعًا كما يقول أحد المقاتلين: «يريدون فعل شيء استثنائي ومختلف ومغامر». وهذا تحديدًا ما نجحت دعاية تنظيم الدولة في الترويج له عبر شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال مقاطع فيديو مترجمة لكل اللغات، وأناشيد حماسية بلغات خاصة. ما يعكس استراتيجية التنظيم في استقطاب وتجنيد عناصر ومقاتلين من كل العالم، بغضِّ النظر عن لغاتهم واختلافهم الثقافي فالمهم هو ولاؤهم للتنظيم واستعدادهم للموت من أجله.

الآلاف من المقاتلين، من العرب والغرب، انضموا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» في وقت وجيز وهو ما يبرز الحاجة إلى فهم سر جاذبية هذا التنظيم، وكذلك فهم أسباب تشبُّع هؤلاء الشباب.
إن أسباب التطرف ودوافعه مع كل مشهدٍ إرهابيٍّ دمويٍّ داخل سورية والعراق، وبعد كل هجومٍ انتحاريٍّ تأتي الأسئلة نفسها دائمًا: من هم هؤلاء الشباب الذين يتصرَّفون بهذه الوحشية؟ ما دوافعهم؟ ما أصل الشر لديهم؟ هل يعانون أمراضًا نفسية أم تنشئة مختلة؟ هل هو فهم خاطئ للإسلام أم أنهم يعانون صعوبة الاندماج اجتماعيًّا ويعانون مشاكل الهوية؟ أم ماذا أكثر؟
هذه الأسئلة تبقى موضع جدل دائم. لكن مهما كان الأمر صعبًا ومعقدًا ومتداخلًا، فلا بدَّ من محاولة للتحليل والفهم، فبمجرد فهم أسباب التطرف ووضع اليد على الأسباب الحقيقية وراء الإرهاب، سننجح في مواجهته وفي الدفاع عن أنفسنا بدقة وفعالية.

من ناحية الفئة العمرية، بلغ سن أصغر مقاتل في تنظيم «الدولة الإسلامية» 12 عامًا والأكبر 69 عامًا بينما بلغ متوسط عمر المجنَّدين، بين 26 و27 سنة فالتنظيم كان يسعى إلى استهداف فئة الشباب بالدرجة الأولى وفي ما يتعلق بالمستوى التعليمي، كشفت الوثائق المسرَّبة (تسريبات تنظيم الدولة)، أن الكثير من المجنَّدين في تنظيم الدولة قد أكملوا المرحلة الثانوية، وعدد آخر ليس بالقليل يحمل شهادات عليا. وكشفت أن المستوى التعليمي للتنظيم «جيِّد»، بحيث إنه على الرغم من تدنِّي المستوى التعليمي لعدد كبير من عناصر التنظيم، إلا أن منهم، أيضًا، من يحمل شهادات جامعية عليا في مجالات علمية مختلفة فالإرهاب ليستا حكرًا على العرب والمسلمين فحسب، ولا حكرًا على مجتمع دون آخر، ولا فئة اجتماعية دون أخرى، ولا مستوى تعليميًا دون غيره. فالدول الغنية في الاتحاد الأوروبي «هي التي شهدت أكبر عدد من المنتمين إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» في صفوف مواطنيها» و ثلثا الأسر لها وضع مالي مريح، وتنتمي إلى الطبقة المتوسطة، ولم تكن من الطبقة الفقيرة أو المهمشة».

ليس هناك «نمطٌ موحَّد»، ولا خلفية اجتماعية أو سياسية واحدة، ولا حتى ثقافة دينية متطابقة، بين الأفراد الذين ينجذبون لفكرة «الجهاد» أو القتال الأجنبي. وليس هناك أسباب ثابتة ومحدَّدة للتطرُّف، نسب التطرف (كفكرة) تختلف من شخص لآخر، قبل أن يتمكَّن من فئة دون الأخرى داخل المجتمع نفسه وتحت الظروف نفسها ويتحوَّل إلى إرهاب (فعل مادي). إذًا هي منظومة مركَّبة ومعقدة تتداخل فيها مجموعة من العوامل الشخصية والدوافع الذاتية التي تتفاعل مع مجموعة أخرى من المؤثرات الخارجية في حياة شخص يجد نفسه في لحظة معينة قد تحوَّل إلى عبدٍ لأفكار متشددة، ودخل في حالة يأس وإحباط تقوده إلى الانعزال عن عالمه الخارجي، قبل أن يختار عالمًا بديلًا يبدأ رحلة البحث عنه والالتحاق به والانصياع لأوامره المتشددة والدموية.

فقد أثرت الثورة الإسلامية الإيرانية في الحركات الإسلامية السياسية وباتت مصدر إلهام لإقامة «دولة إسلامية» سنية، على غرار الدولة الإسلامية الشيعية، وكان سبيلها في تحقيق ذلك هو سلاح «الدين» الذي تم تفسيره وتفصيله على مقاس أهدافها الدنيوية، ووسيلتها في ذلك العنف الذي تزايد بوتيرة متسارعة. في سبيل إقامة «الدولة الإسلامية»، بنَت حركات الإسلام السياسي مشروعها السياسي على خطاب ديني، وشدَّدت في تفسير النصوص القرآنية، واجترَّت التراث الإسلامي من بُعده الزمني. هكذا، تبنَّت حركات الإسلام السياسي فكرة أن الإسلام «دينٌ ودولة» ومن ثمَّ قامت بالدعوة إلى إقامة «دولة إسلامية» وادَّعت كل حركة أنها تمثِّل المنهاج الصحيح للدين وأن رغبتها في السيطرة هي من باب إعادة الدين للمجتمعات. وكلَّما كبر حلمها في الوصول إلى الحكم، ازدادت درجة لجوئها إلى العنف، فلم يكْفِها التدخُّل في الفكر والاعتقاد، ومحاسبة الناس على آرائهم، وإنما قتْل المخالفين منهم، وتطبيق الحدود، وفرض الرأي في الأمور الخلافية ومظلتها في ذلك استدعاء الماضي لتبرير الحاضر من خلال اجترار نصوص خارجة عن سياقها التاريخي يتمُّ تطويعها لتتناسب مع الواقع الذي تريد فرضه، والتفسير الانتقائي للنص الديني وتطويره لمصلحة هدفها السياسي.

ارتبطت رؤية الأفراد لبعض الأحداث الكبرى أو السياسات الدولية، وإحساسها بالظلم الذي مورس خـــــــــلالها أو بسببهــــــا على العرب والمسلمين، بخلق حالة مــــــــــن الكراهيــــة والعداء تجاه الآخـــر/ الغرب، ما أدى إلى بروز عقلية «نحن ضدهم». ومن هذه الأحداث المؤثرة، هناك القضية الفلسطينية، في المقام الأول، ثم الغزو السوفياتي لأفغانستان، والاحتلال الأمريكي للعراق، وأخيرًا الحرب في سورية. إن الظلم الذي مورس، ولا يزال يُمارَس، على الشعب الفلسطيني من طرف المحتل الإسرائيلي، والدمار والقتل والتهجير الذي خلَّفته الماكينة الحربية في أفغانستان والعراق وسورية وغيرها، أدى إلى تفاعل الجماهير مع هذه الأحداث، وإحساسها بالظلم الممنْهج ضد شعوب المنطقة، وهو ما خلق حالة من الكراهية والعداء (وهما أحد أعمدة التطرف الفكري) ضد الغرب. وخلق، أيضًا حالة من عدم الرضا على المواقف السلبية للأنظمة تجاه هذه القضايا، وهو ما كرَّس عند أجيال متلاحقة، أن «الجهاد» هو الحل لتحرير الأمة من قيود الظلم الذي تتعرَّض له، بدءًا من ظلم الاستعمار الإمبريالي، مرورًا بظلم احتلال فلسطين، والحرب في أفغانستان والعراق، وصولًا إلى الحرب على سورية.

عندما أراد تنظيم «الدولة الإسلامية»، استقطاب مقاتليه، في المرحلة الأولى من ظهوره في سورية، حرَّض أيضًا ضد «الظلم الذي يمارسه نظام بشار الأسد على الشعب السوري الطامح للحرية والعدالة الاجتماعية»، كما استفاد من سيل الفتاوى الجهادية، التي لم تشهد لها رواجًا كما حدث في الحالة السورية. وشهدت معظم الدول العربية، في الحقبة نفسها، موجةً من العفو على المساجين «الإسلاميين» و«الجهاديين»، ودفعهم إلى الذهاب للقتال في سورية.

إن أحد عوامل التطرف التي تقود إلى العنف. وتتأثَّر بالظلم الذي تمارسه الدولة على فئة معينة من مواطنيها، والذي يقود أيضًا إلى صناعة الكراهية والعداء. وإذا كانت الدول العربية قد اكتوت سابقًا بنيران السياسات الطائفية الإقصائية التي طالما مثَّلت محركًا أساسيًّا للعنف والعنف المضاد، فقد استيقظت أوروبا غداة 2014 على صدمة مغادرة عدد كبير من مواطنيها إلى سورية للالتحاق بتنظيم «الدولة الإسلامية» نتيجة السياسات الإقصائية والتمييزية التي تعانيها بعض فئات المجتمع. المقاتلون الأجانب الوافدون من أوروبا هم إما متحولون من المسيحية إلى الدين الإسلامي، وإما من أبناء الجيلين الثاني والثالث الذين ولدوا في أوروبا وحملوا جنسياتها، وتشرَّبوا من ثقافتها العلمانية وتخرجوا في مدارسها ومعاهدها، ومع ذلك تركوا حياة الرفاهية والحرية واختاروا التشدُّد الديني والانضمام إلى تنظيم الدولة، حيث الانغلاق والأصولية. هذا الانضمام إلى الجماعات المتطرفة ما هو إلا نوع من الهروب مما يعتبرونه ظلمًا يُمارَس عليهم في موطنهم الأصلي من خلال تعرُّضهم للإقصاء والتهميش وإحساسهم بأنَّهم مواطنون من «درجة ثانية»

و من خلال ما يعانيه بعض الأوروبيين من أصول عربية من تمييز على أساس الهوية، سواء في المدرسة أو الجامعة أو عند الترشُّح لوظيفة. كما قد يكون لون البشرة، والاسم، وارتداء الحجاب سببًا في تعرُّض الشباب من أصول عربية ومسلمة للمساءلة والمراقبة الأمنية وربما المنع من الدراسة في بعض المؤسسات التعليمية. فالتربة التي يتطوَّر فيها التطرف العنيف هي الظلم
وترويج خطاب عنصري متعصِّب، واعتبار المسلمين كائنات رجعية، وتصوير الإسلام خطرًا يهدد أوروبا. وزاد شعوره بالعزلة الذي أورثت في نفوس هؤلاء الشباب إحساسًا بالظلم يخالطه شعور بالكراهية والنقمة على أنظمة علمانية تمارس الديمقراطية الانتقائية. هذا الإحساس بالإقصاء والظلم دفع بعض الشباب الأوروبي إلى الانغلاق، والهجرة إلى تنظيم الدولة بحثًا عن حاضنة اجتماعية بديلة. وهنا قدم تنظيم «الدولة الإسلامية» نفسه كالحل والبديل و«سفينة الخلاص وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة»، معتبرًا دولته دولة تطبيق الشريعة وممارسة الحريات الدينية من دون قامع ولا رقيب.

من المؤثرات الخارجية التي تؤدي أيضًا دورًا مهمًّا في قيادة الآلاف حول العالم نحو التطرف والإرهاب، هناك النظام الاقتصادي العالمي القائم حاليًا، الذي جعل قانون الربح والتراكم غايةً في حدِّ ذاتها، وهذا أدَّى إلى هدر الموارد، وتكريس اللامساواة بين الشعوب، وتأجيج الصراعات الطبقية، وتبنِّي نظريات هدَّامة كـ«الفوضى الخلَّاقة واستنزاف ثروات المنطقة، وإغراق دول الجنوب بالديون، وفرض إملاءات إصلاحية عليها لا تتمشى وطبيعة اقتصاداتها الهشة، ودفعها إلى شراء أسلحة ربما لا تستطيع حتى استعمالها... فهذا النظام الاقتصادي لا يهمُّه دمار دول أو شعوب، أو حتى دمار العالم ككل، ما دام يحقق أرباحًا ويسيطر على العالم. وبمقارنة بسيطة على مستوى العالم، من حيث شكل توزيع الثروة نجد أن 90 بالمئة من سكان الكرة الأرضية يحصلون على 15 بالمئة من الثروة، وفي المقابل 10 بالمئة من السكان فقط يحصلون على 85 بالمئة من ثروات الأرض، فكيف يصلح الحال بهذه المعادلة الاجتماعية غير العادلة؟!

إن نظام الرأسمالية لا يمكن أن يعمل بدون معاناة الشعوب. ففي دول العالم الثالث وفي الغرب أيضًا إن النزاع على المقدَّس وتسييسه، وتحريض الإحساس بالظلم سواء تجاه قضية عادلة أو   وضعٍ إنساني، أو تأجيج الطائفية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، أو اعتماد سياسات إقصائية وتمييزية تستهدف فئةً من المجتمع تولِّد لديها مشاعر الكراهية والرغبة في الانتقام، أو ممارسة العنف ضد مطالب بعض المواطنين وقمع احتجاجاتهم ومطالبهم المشروعة، مع زيادة التوحُّش الرأسمالي وسيادة ثقافة المنافسة والربح الفاحش، وانتشار مظاهر الفساد وغياب العدالة الاجتماعية التي تزيد الفقير فقرًا والغني غنًى... كلُّها مؤثراتٌ خارجية لا توفِّر بالضرورة دوافعَ كافية وقائمة بذاتها للتطرُّف الذي يقود إلى العنف، لكنها عوامل مهيِّئة ومحفِّزة يمكن أن تدفع بتحويل الفرد من شخص عادي إلى شخص يحمل في داخله بذور التطرف.

حينئذ يمكن أن تتفاعل الدوافع الخارجية مع المؤثرات الداخلية/ الشخصية من صراعات نفسية وخلل اجتماعي، فيتحوَّل الفرد إلى «إرهابي». من هنا، على العالم أن يتحمل مسؤوليته تجاه ظاهرة الإرهاب، وأن يعترف بأنه شريك غير مباشر في صناعتها وتأجيجها، وبالتالي مسؤول ومعنيٌّ مباشرةً بمواجهتها من خلال معالجة الأسباب المؤدية إليها. هذا إذا أراد فعلًا تحقيق الأمن والاستقرار العالميين.

إن تحول الفرد إلى متطرف ثم إلى إرهابي، نادرًا ما يكون بصورة مفاجئة، إنَّما في سياق تدريجي. إن يتحوَّل الشخص إلى إرهابي، فذلك نتيجة للسياق الذي يدفعه تدريجيًّا إلى سلوك عدواني، أكثر منه أن يكون نتيجة لقرار فردي. وهو ما يدفعنا إلى السؤال: ماذا يدفع شخصًا إلى التوجُّه للعنف ونهج سلوك القتل: هل بسبب البنية النفسية؟ أم التربية والبيئة الاجتماعية؟ أم بسبب منظومة القيم التي يستند إليها الفرد في عقيدته؟ أم أن السبب يعود إلى نقاط تحول في حياة كل شخص؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى لا يزال التحليل النفسي بشقَّيه الفردي والاجتماعي عاجزًا عن الوصول إليها وتحليلها؟

هناك عوامل اجتماعية ونفسانية وبيولوجية متعدِّدة تحدِّد مستوى صحة الفرد النفسية في مرحلة ما. فمن المعترف به، مثلًا، أنَّ كثرة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية من المخاطرِ التي تحدق بالصحة النفسية للأفراد والمجتمعات المحلية. وتتعلَّق أكثر البيانات وضوحًا في هذا الصدد بمؤشرات الفقر، بما في ذلك انخفاض مستويات التعليم. كذلك هناك علاقة بين تدنِّي مستوى الصحة النفسية وعوامل من قبيل التحوُّل الاجتماعي السريع، وظروف العمل المجهِدة والتمييز القائم على نوع الجنس، والاستبعاد الاجتماعي، وأنماط الحياة غير الصحية، ومخاطر العنف واعتلال الصحة البدنية، وانتهاكات حقوق الإنسان. كما أن هناك عواملَ نفسية وعوامل أخرى محددة، لها صلة بشخصية الفرد، تجعل الناس عرضة للاضطرابات النفسية.
فـ أن المقاتلين في جماعات متطرفة ليسوا بالضرورة مضطربين نفسيًّا، وأنهم غير مصابين بأمراض عقلية أو نفسية، لكنهم يبحثون عن هويات اجتماعية بديلة تحقِّق لهم مُثُلهم العليا التي فشلت المنظومات الاجتماعية التقليدية؛ كالأسرة والأحزاب والأندية وغيرها من أشكال الانخراط الجماعي العام؛ في تحقيقها.

ان القائمين بالعمل الإرهابي تجمع بينهم خصائص متماثلة كالطفولة المضطربة، والانطواء على النفس، والعلاقات المضطربة في الأسرة وبخاصة مع الوالدين، والانقطاع عن الأصدقاء. وأن الأفراد الأكثر قبولًا للانضمام إلى صفوف الإرهابيين والميل إلى التطرف يميلون إلى: الشعور بالغضب والعزلة عن الآخرين، أو الحرمان، والاعتقاد بأن مشاركتهم السياسية الحالية لن تمنحهم القدرة على إحداث تغيير حقيقي، والتماهي مع من يتصوَّرون أنهم ضحايا الظلم الاجتماعي الذي يحاربونه، والشعور بالحاجة إلى القيام بفعل ما، بدلًا من الاكتفاء بالتحدث عن المشكلة. مع الاعتقاد بأن انخراطهم في العنف ضد الدولة ليس عملًا غير أخلاقي في ظل وجود أصدقاء أو أفراد من العائلة يتعاطفون مع قضيتهم. والاعتقاد أن الانضمام إلى تنظيم ما سوف يمنحهم تعويضًا نفسيًّا واجتماعيًّا، مثل روح المغامرة، والرفاقية، والشعور القوي بالذات.

لا توجد لحظة محدَّدة يتحوَّل عندها الفرد إلى «إرهابي»، إلا أن شعوره بأنه ضحية يولِّد عنده الرغبة في الانتقام؛ ما يدفعه إلى الانضمام إلى الجماعات المتطرفة، التي قد يجدها تتبنَّى قضيته ولهذه الجماعات قدرة فائقة على توظيف الإحباط والشعور باليأس لخدمة الأغراض الإرهابية واستغلال البنية النفسية الهشة عند بعض الشباب وعدم تمتعهم بشخصية مستقلة أو القدرة على قول «لا» ومواجهة الضغوط أو المغريات.

إن أسباب الإرهاب شديدة التعقيد، إلى درجة أن من يقومون بعمل إرهابي أنفسهم ربما لا يدركونه بوضوحٍ، في كثير من الأحيان. والفرد لا يصبح إرهابيًّا بين ليلةٍ وضحاها، بل إنها عملية تستغرق وقتًا طويلًا، يتعرَّض فيه الشخص لعملية تدريجيَّة من التنشئة الاجتماعية. وتحيل التنشئة الاجتماعية إلى التفاعل المجتمعي الذي يُمكِّن الفرد من اكتساب مجموعة من القيم والسلوكيات التي تنمِّي شخصيته وتطوِّر قدراته العقلية وتمنحه الثقة بنفسه؛ وتدفعه نحو التكيُّف الإيجابي مع محيطه المجتمعي. أما الإرهاب فيعبِّر في أحد جوانبه عن وجود اختلالات وانحرافات على مستوى التنشئة التي يتلقَّاها الفرد داخل المجتمع والتي تبدأ من الأسرة ثم المدرسة والحي والمحيط الاجتماعي. إن الأسرة المفكَّكة أو التي تعيش مشاكل دائمة تترك آثارًا سلبية في نفوس الأبناء، وبالتالي تسهم في انحرافهم أو تطرفهم، إذا ما وُجد أشخاص أو جماعات متطرفة تستغل هذا الخلل الناتج من التفكك الأسري. فالأسرة كانت ولا تزال أحد أهم روافد التربية التي يستخدمها المجتمع في عملية التطبيع الاجتماعي بجميع محتوياتها ومواقعها. وللأسرة أهمية في تكوين الشخصية وتشكيلها، ولا سيما في مرحلة الطفولة المبكرة (الأعوام الخمسة الأولى من عمر الطفل). إن الطفولة المضطربة تؤدي دورًا حاسمًا في تجهيز الطفل للانخراط في تنظيمات إرهابية في المستقبل. فإن الأيديولوجيات المتطرِّفة العنيفة تطرح نفسها كصورة من صور الهروب التي يلجأ إليها الشخص هربًا من الظلم والحرمان واليأس.

أما بخصوص مستوى التعليم لدى مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية»، أن 69 بالمئة من المقاتلين أفادوا بأنهم حاصلون على التعليم الثانوي على الأقل، بل إن 25,4 بالمئة درسوا في الجامعة. في المقابل، لم تتعدَّ نسبة من لم يصلوا إلى المرحلة الثانوية 15 بالمئة، كما تقل نسبة الأميين عن 2 بالمئة. وأشارت الأغلبية العظمى منهم إلى أنهم كانوا يعملون قبل الانضمام إلى التنظيم.

وفي إطار العدالة الاجتماعية والاقتصادية ودورها في منع التطرف العنيف، أن الفقر وتدنِّي مستوى التعليم ليسا محدِّدين رئيسيين في التحوُّل إلى الإرهاب. في المقابل، يرى التقرير أن البطالة تعدُّ عنصرًا مهمًّا في تحوُّل الشباب نحو الإرهاب. ووجد التقرير أن غياب مؤشرات «الاحتواء الاقتصادي» أو «الشمول الاقتصادي»، وفي مقدمتها البطالة، أكثر أهمية من الفقر وضعف التعليم في دفع الأجانب نحو الانضمام إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» ولاحظ التقرير تزايد معدلات بطالة الشباب في البلدان العربية إلى 29 بالمئة، ما يفوق ضعف معدل بطالة الشباب العالمي، وتراوح بين 40 و50 بالمئة في البلدان العربية التي تشهد نزاعات مسلحة. وأفريقيًا، من بين 75 مليون عاطل من العمل في العالم، يوجد 38 مليون في أفريقيا. هنا أيضًا، علاقة مستوى التعليم بالإرهاب علاقة معقدة ومتشابكة. ففي الوقت الذي نجحت البلدان العربية في محاربة الأمية إلى حد كبير، إلا أن جودة التعليم ما زالت تمثِّل مشكلة لديها. وباستخدام بيانات من 13 دولة عربية، هناك نحو 48 بالمئة من طلاب المدارس الثانوية دون أي مستوى تعليمي يذكر ولا يزالون يُخفقون في اختبارات الحساب. وحتى أولئك المتعلمون فهم غير مجهَّزين بالمهارات المطلوبة لسوق العمل في القرن الحادي والعشرين. فجُل المناهج التعليمية في البلدان العربية تعتمد أكثر من اللازم على الحفظ عن ظهر قلب، ولا تساعد الطلاب على اكتساب المهارات، مثل حلِّ المشكلات والعمل ضمن فرق، مثلما تتطلَّبه الأسواق المعولمة اليوم. وهو ما يجعل إمكانات هؤلاء المتعلمين محدودة جدًّا، ولا تتمشى مع متطلبات سوق العمل الذي يتطلب دائمًا كفاءات ميدانية عالية، إن البطالة ـ وتحديدًا المتعلِّمة منها ـ تمثِّل مصدرًا حقيقيًّا للقلق، ودافعًا أساسيًّا تستغله التنظيمات المتطرفة لاستقطاب الشباب المتعلِّم الذي لم يجد فرصة مناسبة للشغل. فمن لا يتم تجنيده من جانب شركة سيتم تجنيده من جانب إرهابي، ولا سيما أن لديهم مؤهلات علمية أكثر من غيرهم، وبالتالي سقف طموحهم يكون أعلى. ومع أول تعثّر يصابون بالإحباط النسبي والدخول في عزلة، الأمر الذي تلعب عليه الجماعات المتطرفة وتستغلُّه كمدخل للاستقطاب والتجنيد لتقوم بتوظيفهم بعد ذلك في مجموعة من المهمات تتناسب مع طبيعة تخصصهم. فالعنف لا يترسَّخ في الإحباط المطلق، ولكن في الشعور بالحرمان النسبي الذي يولِّد الغضب، وهو ما يؤدي إلى العدوان. هكذا، يولّد العنف عندما تكون هناك فجوة بين ما يعتقد الناس أنهم يستحقونه (التوظيف، المرتبات، مستوى المعيشة... إلخ



ونتيجة لذلك، لا ينضم الشباب إلى الجماعات المتطرفة والإرهابية لمجرد أنهم عاطلون من العمل أو لأنهم جاهلون، ولكنهم يفعلون ذلك لأنهم، نظرًا إلى مستواهم التعليمي العالي، يتوقَّعون مستوى معيشة أفضل. وعندما يعانون البطالة أو يحصلون على عمل غير مستقر، أو غير مناسب لمستوى طموحهم التعليمي يكونون معرَّضين أكثر للإحباط، ويصبحون أكثر عرضة لإغراء الجماعات المتطرفة. بعبارة أخرى، يمكن للشباب خريجي الجامعات والمعاهد أن يشعروا بمزيد من الاستياء من البطالة أكثر من أولئك الأقل تعليمًا لأن مستوى توقُّعاتهم أعلى. لذلك
فالتنظيم يقدم إلى الشباب ما فشلت الدولة في توفيره لهم، وهو الإحساس بالتفوُّق والكرامة داخل المجموعة التي بات ينتمي إليها.

ايضا الإنترنت من ضمن القنوات الرئيسية التي أسهمت في استقطاب وتجنيد الآلاف من الشباب حول العالم، وإن «التوجه نحو التطرف هو، بالدرجة الأولى، عملية تنشئة اجتماعية تكون فيها ديناميات مثل القرابة والصداقة ذات أهمية أكبر من الأيديولوجيا. وبروز «ظاهرة الإخوة الإرهابيين» شيءٌ منطقي، طبقًا إلى الطريقة التي يتم بها الاستقطاب بين الإرهابيين». فظاهرة الاستقطاب، تتم دائمًا عبر ما يسمى «الدوائر الضيقة»، وهو مصطلح يعني أن يتم التأثير من الإرهابي في الدائرة القريبة منه، والتي لها أهمية له، ويكون قادرًا على التواصل معها بحرية، من دون خوف من الملاحقة. وتتمثَّل حلقة متتالية من التأثير بين الأشخاص الأكثر قربًا من بعض وهكذا تتسع الدائرة شيئًا فشيئًا.

وعليه توضِّح الدراسة أن العلاقات العائلية هي الطريقة المثلى لتجنيد هؤلاء. إن الإرهاب لم يعد فقط سلوكًا فرديًّا يأتي من قناعات ذاتية ودوافع شخصية أو تأثيرات أيديولوجية تهبُّ من خارج البيت، بل أضحى سلوكًا يدخل إلى قلب الأسرة، سواء من طريق سلطة الأب والزوج، أو من خلال تأثير الإخوة والأقارب والأصدقاء. وكما أظهرت الدراسات، فربع من تم تجنيدهم في صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية»، تربطهم علاقات قرابة أو صداقة بمنتمين سابقين يعملون على التأثير المباشر فيهم أو من خلال التواصل من طريق الإنترنت لإقناعهم بالتنازل عن حياتهم الواقعية بكل إحباطاتها ومشاكلها وربما الفراغ الذي يسيطر عليها، للالتحاق بوهم «الخلافة» والجنَّة الموعودة التي سرعان ما تتحول إلى نار ووحشية وخيبة أمل عبَّر عنها الكثير من العائدين والمنشقين عن التنظيم. فالتجنيد عبر الأقارب والأصدقاء أقوى كثيرًا من كل وسائل الاستقطاب الأخرى، بما فيها الاستقطاب الديني.

إن التحول إلى الإرهاب يستوجب توافر عوامل دفع، وهي مختلف الأسباب التي يمكن أن تقود إلى التطرُّف ومنه إلى الإرهاب، وكذلك وجود عوامل جذب، وهي تنبع مما يريده الفرد أو يحتاج إليه لنفسه من فوائد الانضمام إلى هذا التنظيم أو هذا الفكر، كالشعور بالانتماء، أو الهروب لهوية جديدة، أو البحث عن المغامرة أو المال، أو الحاجة إلى الشعور بالقوة واكتساب شعورٍ بالأهمية أو الرغبة في الانتقام، أو البحث عن الشهادة والجنة، وغيرها. فلكل شخص حاجات وطموحات يتم تلبيتها بالانضمام إلى التنظيم. فقد نجح تنظيم «الدولة الإسلامية»، في استقطاب الآلاف من المقاتلين، من خلال اعتماد استراتيجية تستجيب لحاجات كل مقاتل ودوافع التحاقه بالتنظيم. فقد استطاع فعلًا التأثير في الشباب الذين نقلهم من حالة القلق والتوتر وعدم اليقين إلى حالة من الإيمان بالنفس والوثوق بقدراتها. وتضخيم «الأنا» من خلال الثقة في القدرة على تغيير المجتمع، والتأثير في العالم والانتقام منه، أيضًا.

لم يأتِ الإرهاب من تطرُّف الإسلام كدين، بل من أسلمَة التطرف. بمعنى أن هؤلاء الشباب المتطرفين، لم يكن تطرُّفهم، في البداية، بسبب الخطاب الديني، لكن سبب التطرف لديهم كان لأسباب مختلفة مركَّبة ومتشابكة، ولم يكن تطرفهم الديني إلا مجرد وسيلة لتحقيق أهدافهم
فأغلب المجنَّدين في صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية» لم يكن لديهم سوى معرفة قليلة بالدين، أو لم يكونوا يعرفون عنه شيئًا، بل كان جزء منهم من المجرمين وتجار المخدرات، وبعد وصولهم إلى سورية هناك فقط تلقوا تعليمًا دينيًّا متشددًا يتمشى مع استراتيجيا التنظيم العنفية.
فالشخص الإرهابي هو في النهاية نتاج سياسات العالم الذي يعيشه والظروف المحيطة به. وهو أيضًا ضحية صراعاته النفسية وتنشئته الاجتماعية والظروف التي ترعرع فيها. فهو لم يولد متطرفًا ولا عنيفًا بالفطرة، بل هو شخص عاش حياته تحت ظروف وتأثيراتٍ ما وبمعتقدات معيَّنة. وتراكم هذه الظروف والتأثيرات أدى، عند نقطة تحول ما في حياته (ربما لحظة الرد على زناد كل الأحداث والتقلبات التي عاشها في حياته) عندما بدأت بالتفاعل مع بعضها ومع المعتقدات لتبدأ مرحلة الرد.

نجح تنظيم «الدولة الإسلامية» في التواصل المباشر والسريع فيما بينه وبين جمهور واسع، فهو رمى الطعم وانتظر الفريسة التي أتته قاطبة من كل أنحاء العالم، بعدما نجح التنظيم في اللعب على الحاجات النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لضحاياه.

إذا كانت بؤر التوتُّر والصراعات والحروب دائمًا ما تمثِّل بيئة حاضنة للتطرُّف وتصدير العنف، كما سبق الإشارة إلى ذلك سلفًا، فهي ليست الوحيدة، فهناك بيئات أخرى تسهم في إشاعة جوانب التطرُّف، منها السجون التي قدمت مددًا جاهزًا من الشباب الغاضب الذين كان على أتمِّ استعدادٍ للتطرف والتجنيد، والمناطق الهامشية التي لا تزال تفرز أجيالًا من الحاقدين والراغبين في الانتقام من المجتمع الذي قام بعزلهم، إضافة إلى الإنترنت الذي تحوَّل إلى فضاء لاستقطاب وتجنيد وتفريخ المتطرفين أيضًا. إضافة إلى المساجد التي يسيطر عليها أئمة متطرفون، والتي يمكن احتسابها أيضًا إحدى البيئات المنتجة للتطرف. فمن رحِم الحرب في أفغانستان، وباكستان والعراق، ونيجيريا، وسورية، خرجت تنظيمات «جهادية» كبرى. فهذه التنظيمات لم تأتِ من العدم، بل هي نتاج سياسات استعمارية، وحروب مدمِّرة، وتضارُب مصالح قوى إقليمية ودولية التي جهَّزت الأرضية اللوجستية للحرب والقتال، ومرة أخرى، حرضت عليه باحتلال الأرض وهدم مؤسسات الدول ودعم سياسات طائفية، بينما دفع الثمن بالكامل منطقة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، بوصفها أعلى مناطق العالم إفرازًا للتنظيمات المتطرفة، والأعلى إرهابًا من دون أن ينجو الغرب أيضًا من أداء نصيبه من فاتورة مواقفه السياسية في الشرق الأوسط، بعدما بات عدد كبير من أبنائه يسلكون طريق التطرف والإرهاب كرد فعل وأداة للتعبير عن رفضهم سياسات بلدانهم.
مثَّلت السجونُ مكانًا لتفريخ المتطرفين والإرهابيين، تحوَّلت السجون إلى مدارس لتخريج متطرِّفين معبئين بالكامل لتنفيذ كل المهمات التي توكل إليهم؛ إما من باب «الانتقام» من المجتمع، وإما من باب «التكفير» عمَّا ارتكبوه من أخطاء ومعاصي.


صارت السجون مكانًا للاستقطاب والتواصل والتجنيد والتخطيط لعمليات ما بعد السجن
يمكن أن تفرز بعض المناطق الهامشية بيئات منتجة وحاضنة فـ أينما يتفشى الجهل والفقر ويضعف وجود الدولة بمختلف مؤسّساتها وخدماتها، وينعدم دور الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية في تأطير المجتمع، ويشتد، في المقابل، وجود أنصار الجماعات المتطرفة تكون هذه البيئة أكثر تعرضا للإصابة بلوثة التطرف والانسجام معه، من دون أن تكون بالضرورة منتجة للعنف. بمعنى أن هذه البيئات يمكن أن تتعاطف مع أيّ جماعة متشددة أو إرهابية ويمكن أن تساعدها أيضا في مواجهة الدولة. ويمكن أن تشكل بعض الأحياء العشوائية التي تعاني نسبة كبيرة من الإهمال، وسوء ظروف المعيشة، بيئات حاضنة للتطرف والعنف. فالفرد الذي يجد نفسه في حالة تيه اجتماعي بين قيمه وحاجاته التي لا توفّرها السلطات السياسية في البلاد، وبين طموحه وواقعه الذي تقل فيه الخدمات الصحية والتعليمية، وتتزايد نسب الفشل الدراسي وتكثر البطالة ويستفحش الفقر، غالباً ما يتحول هؤلاء المواطنون إلى بؤر اجتماعية ناقمة على النظام وطعما سهلا للتطرف والإرهاب، وغالبا ما تتحول أحياؤهم إلى حواضن للتطرف يمكن أن يتخرج منها مشاريع إرهابيين. ايضاً الإنترنت أهم بيئة منتجة للإرهاب في السنوات الأخيرة، شهدت السنوات العشر 2006 ـ 2016، طفرة هائلة في وسائل التكنولوجيا الحديثة وعلى رأسها الإنترنت
في الوطن العربي، الذي وصل عدد مستخدمي الإنترنت فيه إلى نحو 226 مليون مستخدم في نهاية عام 2018، ليصبح الإنترنت بذلك جزءا أساسيا من الحياة اليومية للفرد. ومثلما استخدمته كبريات الشركات والمؤسسات من أجل عرض منتجاتها والإعلان عن خدماتها، فقد سخرته مختلف التنظيمات المتطرفة أيضا لأغراضها الدعائية، جعل تنظيم «الدولة الإسلامية» من الإنترنت المحرك الأساسي للتسويق لنفسه وأفكاره وأيديولوجياه المتطرفة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيما «فيسبوك» و«تويتر»، في إطار سعيه لتعزيز استراتيجية لا تهدف إلى نشر ثقافته المتطرفة والتكفيرية، فحسب، بل إلى شن حرب نفسية، للتأثير في الخصوم، والسعي إلى استقطاب الشباب، للتطوع في صفوفه، وعرض تطرفهم على صفحاتهم على فيسبوك، لأن شهاداتهم وصورهم وهم فرحون بعالمهم الجديد، تكون بمثابة «مثال» ومصدر إلهام للآخرين
رغم تأكيد مجموعة من الدراسات الدور الثانوي للمساجد في الاستقطاب والتجنيد، فإن ذلك لا يمنع من أنها لا تزال تمثل إحدى حواضن التطرف، إذا ما ولي عليها أئمة متشددون أو تابعون لأحد التنظيمات المتطرفة. مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» منظومة «فكرية وعقدية» لا ينحصر مداها أو يقف مفعولها عند حاضنة واحدة من مختلف الحواضن المتاحة. لقد لجأ إليها مجتمعة إيمانا منه بأن منظومته تكاملية، وأنّ ما يصعب بلوغه في المساجد قد يمكن تداركه عبر مواقع التواصل، وما يتعذر النفاذ إليه داخل البيوت، يسهل الولوج إليه في المدارس والجامعات، وما يستعصي داخل الفضاءات المفتوحة، يهون الوصول إليه داخل السجون المغلقة؛ حيث يسهل الاستقطاب، ويرتفع منسوب القابلية للانجراف بهذا النحو أو ذاك. وإذا كانت عمليات التجنيد وغسل مخ الشباب، تتم سابقا في الزوايا والجوامع الصغيرة في القرى والمناطق العشوائية والشعبية، وكان هذا أسهل في المتابعة والملاحقة للأجهزة الأمنية وقتها، فمع تنظيم الدولة أصبحت عملية المتابعة والرصد شاقة وصعبة؛ نظرًا إلى الأساليب الجديدة التي أصبح التنظيم يتبعها في تجنيد مقاتليه.

 

المرأة والإرهاب.. التحولات الأيديولوجية والدوافع الذاتية

على غرار ظاهرة المقاتلين الأجانب، سبق تبنِّي المرأة للعنف السياسي وقيامها بعمليات انتحارية، قيام ما يعرف بالتنظيمات «الجهادية» وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» بسنوات طويلة. فقد استلهم هذا الأخير فكرة توظيف المرأة داخل التنظيم ليس فقط من نماذج في التاريخ الإسلامي، ولكن أيضًا من الدور الذي اضطلعت به المرأة في حركات التحرير الوطني، وقبلها في الحركات السياسية في الغرب. لقد ارتبط اسم المرأة بالعنف السياسي، منذ القرن التاسع عشر. بينما داخل التنظيمات «الجهادية»، فقد كان دور المرأة، قبل 2004 تقليديًّا، في المجمل، ومحدودًا وهامشيًّا، حيث كان هناك تشديد في الخطاب «الجهادي» على رفض دخول المرأة ميدان القتال والمعارك وتفضيل عدم هجرتها إلى مناطق الصراع، إلا بوصفها زوجة أحد المقاتلين  بينما كان دورها يقتصر على التبعية للرجل/الزوج وتلبية طلباته، ودعمه، وإنجاب الأطفال وتربيتهم على الأفكار المتطرفة. وقد كان المقاتلون العرب في الشيشان، وتنظيم القاعدة في العراق، وبوكو حرام، أول من دعوا إلى تولي النساء مناصب متشددة، حيث تم استخدام النساء كانتحاريات، في الوقت الذي أكَّد فيه زعيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن، وزعيمها الحالي أيمن الظواهري، أهمية دور المرأة في «الجهاد كأمهات وزوجات»(256). ولم تشارك المرأة القاعدية في العمليات القتالية إلا بعد 2004، عندما دعا أبو مصعب الزرقاوي النساء إلى القيام بهذا النوع من العمليات. وقد شهدت العراق أول تفجيرين انتحاريين على يد نساء في العام الأول للاحتلال الأمريكي قبل أن يتحوَّل الأمر إلى ظاهرة عام 2007، عندما شهد العراق ثمانية تفجيرات انتحارية قامت بها نساء. ومع ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، سرعان ما تحوَّلت ظاهرة «الإرهاب النسائي» إلى واقع متصاعد بعدما انخرطت النساء المقاتلات بصورة كبيرة في التنظيم، وقُمن بأدوار بارزة ومحورية منها تجنيد نساء أخريات، والقيام بعمليات تهريب الأموال والسلاح، والمساهمة في التخطيط وتنفيذ عمليات إرهابية. وغالبًا ما تجاهلت بحث دور المرأة في التنظيمات الإرهابية؛ على اعتبار أن النساء عادةً ما يكنَّ ضحايا وضعيفاتٍ وتابعات، وبالتالي لا يُنظر إليهن كمتطرفات أو كإرهابيات محتمَلات أو كأفراد يشكلون خطرًا على الأمن والاستقرار العالمي؛ إلا أن الهجمات التي ارتكبتها نساء مقاتلات  والمعلومات الاستخبارية حول جهود تنظيم «الدولة الإسلامية» لتجنيد النساء، قد فنَّدت هذا المفهوم الخاطئ الذي يعدُّ العنف والإرهاب عملًا حصريًّا للرجل بل أكدت أن المرأة في تطرُّفها لا تقل خطورة ولا عنفًا عنه. وتقدِّر بعض الأبحاث أن النساء يمثِّلن، في المتوسط، ما بين 10 و15 بالمئة من الجماعات الإرهابية. فالمفهوم الخاطئ بكون المرأة مجرَّد ضحية للرجل وتابعة له. فالتحاق النساء بصورة إرادية بالتنظيمات الإرهابية والهجمات التي ارتكبها نساء أو شاركت في تخطيطها وتنفيذها حول العالم إضافة إلى كل المعلومات الاستخبارية المتواردة حول جهود الجماعات الإرهابية لتجنيد أكبر عدد من النساء والعمليات النوعية التي باتت النساء يقُمن بها في صفوف هذه التنظيمات كلُّ ذلك يدعو إلى أخذ تهديد الإرهاب النسائي على محمل الجد.

فمع بداية ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام». أخذ دور المرأة بُعدًا إغرائيًّا، حيث استُغِلَّت المرأةُ كعاملِ جذبٍ للمقاتلين الأجانب. وقد أكدت تقارير غربية أن «جميع المقاتلين الأجانب، يحصلون على فتاة من أجل ممارسة الجنس معها بمجرد انضمامهم إلى صفوف تنظيم الدولة. لكن مع الهزائم المتتالية التي مُني بها هذا الأخير، سواء بمقتل عناصره أو فرارهم، استعان التنظيم بالنساء لسد النقص في عدد مقاتليه  وبات يستخدمهن أكثر في المنازلة الميدانية والدور القتالي، إلى أن وصلت مشاركة المرأة إلى الصفوف الأولى للمعركة. كما تزايد عدد النساء الانتحاريات مع الحملة الإعلامية التي قادها تنظيم الدولة مع انتشار فتاوى تشجِّع المرأة على الجهاد لنيل الشهادة

فكيف يمكن أن نفسِّر أنَّ تنظيمًا ذكوريًّا يستغلُّ المرأة أسوأ استغلال ويستعبدها ويستبيح جسدها، ويعادي كل حقوقِها الإنسانية، وفي الوقت نفسه يكون قادرًا على اجتذاب مئات النساء من أوروبا، ومئات أخرى من العالم العربي والإسلامي ويقنعهن بضرورة «النفير» إلى «أرض الخلافة»، حيث العودة إلى النظام السلطوي الذي لا مكان فيه لا للحقوق ولا للحريات، وحيث النظرة المزدوجة للمرأة بوصفها «العورة» و«السبية» وفي ذات الوقت «المقاتلة» و«الانتحارية»؟


كيف نفسر الأسباب التي تدفع فئات من النساء من بلدان العالم كافة إلى الالتحاق بتنظيم «الدولة الإسلامية»، والقبول بالتضحية بالحرية والتحرر والأمان والاستقرار، في سبيل «الهجرة» إلى أراضي المعركة التي تقع تحت سيطرة التنظيم؟

أولاً دور المرأة لدى الجيل الأول للقاعدة مع بداية ظهور تنظيم «القاعدة»، لم يفضل قادتها المؤسسون ومنهم أسامة بن لادن وعبد الله عزام وأيمن الظواهري، مشاركة المرأة في العمليات القتالية للتنظيم، سواء في أفغانستان أو في وقت لاحق في السودان والسعودية واليمن، بل قَيَّدوا دورها في خدمة «الزوج المجاهد» وتربية الأطفال على فكر التنظيم المتطرف. كان دور المرأة الأساسي في الزواج من المقاتلين وإنجاب جيل ممن يعتبرونهم «مجاهدين». وقد نجح تنظيم القاعدة ولسنوات في توظيف الزواج كـ«سلاح بيولوجي» من خلال تأصيل «زواج الصغيرات» و«التعدد» مع تحريم استخدام موانع الحمل، بغرض تحقيق الامتداد السلالي والتكاثر العقائدي، إضافة إلى بناء شبكة داخلية وتحقيق علاقات النسب والمصاهرة التنظيمية، إلا أن التنظيم سرعان ما ارتدَّ عن هذا السلاح بعد ملاحقة بن لادن في معقله في كهوف تورا بورا وتقلص موارد التنظيم بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001

أما دور المرأة داخل التنظيم فقد تمَّ حصره في هذه الفترة، إضافة إلى الزواج والإنجاب، في التمريض والطب وإغاثة المقاتلين، وكذلك التعليم، الذي تتولَّى فيه تقديم التعليم الشرعي لقريناتها من النساء، لإعطاء صورة جيدة للتنظيم، فضلًا عن الدعوة إلى الجهاد والحثِّ على القتال، لكن دون مشاركتها الميدانية
حيث كانت القيادات المؤسِّسة لتنظيم القاعدة متحفِّظة، على طول الخط، عن دور المرأة ونشاطها في الخط الأمامي من العمليات القتالية. وإذا كان دور المرأة القاعدية محصورًا في أنشطة تقليدية، فإن الحاجة إلى دعمها والرغبة في تشجيع التحاقها بصفوف التنظيم دفعت منظِّري التنظيم إلى تغيير الفتاوى المرتبطة بذلك، فأصبحت هنالك تبريرات لسفر المرأة من غير محرم. وهذا ما أكده عزام في إحدى كتاباته عندما قال: «فقد تكلمنا طويلًا عن حكم الجهاد اليوم في أفغانستان وفلسطين، وفي كل ما شابهها من أراضي المسلمين المغتصَبة، وأكَّدنا ما قرره السلف والخلف من محدِّثين ومفسِّرين وفقهاء وأصوليين أنه إذا اعتُدي على شبر من أراضي المسلمين أصبح الجهاد فرضَ عين على أهل تلك البقعة، تخرج المرأة دون إذن زوجها – بمحرم والمدين دون إذن دائنه، والولد دون إذن والده، فإن لم يكفِ أهل تلك البقعة أو قصروا أو قعدوا توسع فرض العين على من يليهم، وثم إلى أن يعمّ فرض العين الأرض كلها فرضًا لا يسعهم تركه كالصلاة والصوم وغيرها.

فمن يربِّي الشباب لتلك المعركة؟ ومن يقف وراء الرجال لخوض تلك المعركة؟ ومن يعد أمهات الجيل القادم ليُكْملن الطريق بعدك؟ إن الأجوبة على هذه الأسئلة ومعها عشرات الأسئلة الملحَّة مثلها، تبيِّن أمرًا واحدًا: وهو أن المرأة عنصر مهم في الصراع ويجب حضورها وبكل إمكانياتها وعواطفها، وحضورها ليس عبارة عن مكمِّل في الصراع، كلا، بل إن حضورها يعدُّ ركيزةً من ركائز النصر ومواصلة الطريق. مع الوقت، بدت حاجة «القاعدة» إلى الدعم الذي تقدمه المرأة ملحَّة، وحاول التنظيم من خلال فتاوى ورسائل ودعوات الدفع بتجنيد المرأة للقيام بأدوار خدماتية ولوجستية بعيدًا من الانخراط في المعركة. وكانت نساء القاعدة في شبه الجزيرة العربية، يلعبن دورًا بارزًا داخل التنظيم، بل يعدُّ هذا الدور سمةً أساسيةً للقاعدة منذ إنشائها في شبه الجزيرة العربية.

شكلة حرب الشيشان بين دعاة انفصال جمهورية الشيشان القوقازية وروسيا، في أواخر 1995 وفي 1999 كانت هناك نقطة تحول في موقع المرأة داخل التنظيمات «الجهادية». وقد تم العمل على بناء معسكرات تدريب وإنشاء شبكات إمداد لوجستية لتسهيل دخول المتطوعين، والعمل على إعطاء المرأة أدوارًا لوجستية وقتالية، هكذا خرجت المرأة الشيشانية من الإطار التقليدي للجهاد النسائي الذي طالما كان محصورًا في أدوار ثانوية، فقد كان من نتائج حربين، تعرَّض فيهما الشعب الشيشاني لامتحانات عسيرة بدأت بالتطهير والاغتصاب والتهجير، ومرَّت بالنهب والقتل والتعذيب، وسط تجاهل المجتمع الدولي لتلك المعاناة، وهو ما أدى إلى إفراز جيل جديد من النساء، بتن يُعرفن بـ «الأرامل السود»، ممن فقدن في هذه الحروب الزوج والأب والأخ والأبناء، وتجاوزن في أنشطتهن ما ارتبط بالمرأة من أدوار تقليدية وهامشية، حيث باتت المرأة الشيشانية تقود عمليات انتحارية، وتقوم بتجنيد نساء أخريات للقيام بها ضد القوات الروسية. بات دور المرأة لا يقل عن دور الرجل الشيشاني في ميدان المعركة، بل يزيد في بعض الأحيان؛ فهي التي ترفع من روحه المعنوية، وتؤازره بكل ما تستطيع، كما تُعِد المرأة الشيشانية أبناءها للاستشهاد.

أمام هذا الدور الجديد للمرأة «الجهادية» في الشيشان والمرأة «المقاومة» في فلسطين، حيث تشارك المرأة في عمليات مقاومة المحتل الإسرائيلي، بدأ القادة الجدد لتنظيم «القاعدة»، في إعادة النظر في أدوار المرأة داخل التنظيم. وفي الحقبة 2001 – 2003 قام تنظيم القاعدة بإصدار دعوات وبيانات عن تجنيد النساء وفي عام 2004، أطلق التنظيم مجلة نسائيةً وهي مجلة الخنساء التي لم يُكتب لها الاستمرار، لكنها أظهرت النيات القاعدية تجاه المرأة والدور الذي يأمل قادة التنظيم أن تؤديه. ومع صعود شبكة الإنترنت ركز التجنيد النسوي على ما يسمَّى «الجهاد الإلكتروني»، حيث أشارت تقارير إلى أن 40 بالمئة من مواقع القاعدة كانت تديرها نساء وتشرفن عليها. هكذا برز دور نساء القاعدة ليس على المستوى المنزلي و«التبعية» للرجل فحسب، ولكن أيضًا على مستوى الدعم اللوجستي والخِدمي، من خلال جمع الأموال، وتوفير الرعاية وتأمين المطلوبين، وتهريب الأسلحة، إضافة إلى الدعم الإعلامي والترويج للفكر القاعدي وتجنيد مؤيدين جدد. وفَّرت شبكة الإنترنت، للمرأة القاعدية، فرصة من أجل نشر الأيديولوجيا الجهادية على نطاق غير مسبوق كما مكَّنتها من الوصول إلى أكبر عدد من المتعاطفين رجالًا ونساء. ونشطت نساء القاعدة على الإنترنت ونشرن موادَّ تُمجِّد التنظيم وتشجِّع على الجهاد، وهدفهن في ذلك استقطابُ نساء أخريات وتجنيدهن وتحريضهن على الهجرة إلى مناطق الصراع. كانت المرأة القاعدية مقسَّمة إلى نوعين: النوع الأول، تتم الاستفادة منه عن بُعد في الدعم، كإدارة المواقع الإلكترونية وجمع المعلومات من دون الحاجة إلى الالتحاق الفعلي بالتنظيم. أما النوع الثاني، فهو ممن يحق لهن الالتحاق بالتنظيم، وتتم الاستفادة منهن في أدوار خدمية ولوجستية. لكن هذه الأدوار الجديدة لم تقنع قادة القاعدة الجدد. بل وأجاز وشجع المرأة على تنفيذ عمليات انتحارية.

فقد فعلت ما لم يفعله كثير من الرجال، وحق لكل مناصر أن يتحفز شوقًا ليقدِّم مثلما قدَّمت، وحق له أن يرفع رأسه بأن ظهر في الأمَّة مثل هذه النماذج، ونحن على يقين أن أمَّة فيها أمثالها لن تعدم الخير بإذنه

في هذه المرحلة أقدم القادة الجدد لتنظيم القاعدة إلى إصدار دعوات ورسائل وفتاوى لحثِّ المرأة على الالتحاق بتنظيم «القاعدة» وتوسيع أدوارها داخله، إلا أن هذه المساعي لم تتحقَّق بالصورة المطلوبة، فحجم مشاركة المرأة لم يصل إلى المستوى الذي خطط له القادة الجدد. فقد بات إستغلال النساء أحد أدبيات القاعدة. بدءًا باستغلالها في خدمة الزوج المجاهد، مرورًا باستخدامها في تجنيد نساء أخريات. وقد كانت الحقبة 2000 ـ 2005، ساخنة في الزجِّ الفكري الهائل للمشاركة النسائية ضمن خلايا «القاعدة» في العراق والشيشان والمغرب العربي. وقد وصل الأمر إلى الزجِّ بها في دائرة العنف والتخطيط لعمليات إرهابية  وبخاصة أن المرأة نفسها لم تعد تكتفي بالدور التقليدي الذي يقتصر على زرع الأفكار المتطرفة في أولادها والتأثير في زوجها. وهكذا امتد أثرها إلى أدوار قوية تتجلَّى في إيواء الإرهابيين المطارَدين وخدمتهم، والعمل على نشر أفكار التنظيم المتطرفة عبر مواقع الإنترنت، وكذلك جمع التبرعات المالية التي تساعد التنظيم على تنفيذ مخططاته، قبل أن يتوسع دورها ليشمل أدوارًا انتحارية وقتالية بعد تأسيس فرع القاعدة في العراق."
و من هنا ساعد الزرقاوي على تطبيق نموذج «المرأة الانتحارية»، وتصاعد الحرب الطائفية في العراق بسبب السياسات الأمريكية، واعتقال الكثير من الأشخاص المنتمين إلى المذهب السني، بمن فيهم النساء؛ حيث احتجزت السلطات الأمريكية، خلال هذه الحقبة، ما لا يقل عن 100 امرأة، فضلًا عن الانتهاكات التي تعرضت لها بعض المحسوبات على الطائفة السنية في السجون العراقية التي كانت تشرف عليها القوات الأمريكية. توسَّع فرع تنظيم القاعدة في العراق في توظيف النساء في عملياته، وتصاعدت المهمات الموكلة إليهن من الدعم اللوجستي، وجمع التبرعات والدعاية، إلى المشاركة في العمليات الانتحارية. وقد عززت الانتهاكات التي تعرضت لها النساء العراقيات ـ من المكوِّن السني تحديدًا ـ من ترسيخ مبدأ مشاركتهن في القتال جنبًا إلى جنب مع الرجل. استغل الزرقاوي العملية الانتحارية التي نفَّذتها البلجيكية مورييل ديغوك في العراق في تشرين الثاني/نوفمبر 2004، للقبول والدفع بمشاركة المرأة في هذا النوع من العمليات. وفي أيلول/سبتمبر 2005، أعلن الزرقاوي عن تجنيد امرأة لتنفيذ عملية انتحارية في بلدة تلعفر القريبة من الحدود السورية. وقد حرض الزرقاوي على تجنيد المرأة ومشاركتها في القتال . وقد استغل زعيم القاعدة في العراق إقبال النساء على العمل القتالي، أولًا من أجل الترويج إعلاميًّا للتنظيم، وثانيًا من أجل تحقيق أهداف تعبوية على اعتبار أن المرأة الضعيفة سبقت الرجل؛ وهو أقدر منها في الهمة؛ وطلبت الجهاد والتضحية بنفسها في سبيل الله، الأمر الذي يؤدي إلى استثارة الرجل.

سواء كان لجوء تنظيم القاعدة للنساء تكتيكًا حربيًّا، أو بهدفٍ تعبوي، أم كان ذلك دلالة على إفلاس التنظيم بعد أن أسهم التضييق الأمني والجهود الأمنية المكثَّفة في تجفيف الكثير من منابعه وحصار مقاتليه من الرجال الذين أصبحوا مستهدفين ومعروفين لدى الأجهزة الأمنية؛ وهو ما دفع التنظيم إلى الاستعانة بالنساء وتجنيدهن؛ فقد أثار التنظيم من وراء تجنيد النساء ضجَّة إعلامية كبيرة؛ ربما تكون قد أسهمت بدورها في تشجيع نساء أخريات على الالتحاق بالتنظيم وتنفيذ عملياته. لقد أحدثت جميع الهجمات الإرهابية، التي كانت النساء طرفًا فيها، رد فعل كبيرًا واهتمامًا إعلاميًّا واسعًا، بالرغم من أن تلك العمليات في كثير من أحوالها لا ترتقي إلى الحدِّ الذي يجعلها تحدِث معه تلك الضجة إذا ما كان العنصر المرتكب لها غير أنثى. وهذا بالطبع ما كان يحتاج إليه ويشجعه بشدة قادة التنظيم الجدد. فالمرأة بتفجيرها نفسها تقدِّم خدمة أكبر من مجرد التفجير، ألا وهي الدعاية الإعلامية الغائبة.

تمكن تنظيم القاعدة في العراق من تجنيد النساء في عمليات انتحارية، لاعبًا في ذلك، على غرار «الأرامل السود» الشيشانيات، على وتر الانتقام لمقتل أحد ذويهن، مثل الزوج أو الأب أو الأخ أو الابن، الذي غالبًا ما يكون عضوًا في التنظيم. واستغل التنظيم سهولة وصول المرأة إلى الهدف، مقارنة بالرجال، نظرًا إلى نجاحها في اجتياز الحواجز الأمنية بلا تفتيش، كون المرأة لا تثير الشكوك من ناحية، ومن ناحية أخرى، عدم توافر عناصر أمنية نسائية مؤهَّلة بالصورة المطلوبة لمراقبة باقي النساء. وهو الأمر الذي استفادت منه القاعدة في العراق فجندت نحو 60 انتحارية قُمن بعمليات أودت بحياة الآلاف من العراقيين. وأوضحت المصادر أن زوجات عناصر وقيادات تنظيم القاعدة الذين قتلوا على أيدي القوات العراقية والأمريكية، يحملن روحًا انتقامية وأفكارًا متطرفة يزرعنها في أبنائهن، وبالتالي توارث الفكر القاعدي من جيل إلى آخر. حيث تكوَّنت بعد عام 2007، ما يعرف بـ «الأسر القاعدية» أي أن الأب والأم وحتى الأطفال يتبعون مفهومًا فكريًّا واحدًا هو الإيمان بما تحمله القاعدة من أفكار واجتهادات دينية. كما أن أغلب عمليات نقل الأحزمة الناسفة والعبوات والمنشورات كانت تقوم بها زوجات عناصر وقيادات في القاعدة بين عامي 2008 و2009. وأكدت الأجهزة الأمنية في ديالي أنه ضمن 27 عملية انتحارية نفذتها نساء في أعوام 2007 ـ 2010، هناك 19 عملية نفذتها زوجات وشقيقات عناصر وقيادات تنظيم القاعدة من الذين قتلوا في مواجهات مع الأجهزة الأمنية.

بين مرحلة مكوث المرأة القاعدية في المنزل والاكتفاء بالعمل على راحة أهلها وذويها، من إعداد المأكل والملبس وتربية الأبناء على الفكر الجهادي، وبين استخدامها على نحو واسع ورئيسي في الدعم اللوجستي من خلال عمليات جمع الأموال، وتجنيد النساء، وإيواء العناصر المطلوبة وتهريب الأسلحة، والترويج والدعاية الإعلامية عبر الشبكة العنكبوتية، وصولًا إلى استخدامها كقنابل موقوتة مع اتباع استراتيجية النساء الانتحاريات وتصوير فيديوهات لهن قبل التفجير وترويجها في وسائل الإعلام بأكبر قدر ممكن، فإن المرأة قد تم استغلالها بشكل متزايد من طرف التنظيمات الإرهابية. فالمرأة هي الورقة الرابحة التي تعتمد عليها هذه التنظيمات من أجل الدعاية لها بشكل أكبر، وهي التي تعتمد عليها أيضًا إذا ما تقلَّصت مواردها أو حوصر مقاتلوها أو توالت هزائمها. وهذا ما كشفه الاستغلال الفاحش للمرأة داخل تنظيم «الدولة الإسلامية

فظهرت دعوات إلى هجرة النساء لـ «الدولة الإسلامية»، كزوجات وربَّات بيوت، وكانت معظم هؤلاء النساء في أواخر سن المراهقة أو أوائل العشرينيات، بينما كانت أصغرهن في عمر 13 عامًا. ثم برزت بعد ذلك دعوات أخرى للطبيبات والممرضات والمهندسات للنزول إلى ساحة القتال للقيام بدورهن الإنساني في معالجة إخوانهم المجاهدين ورعايتهم، قبل أن يبرز دور المرأة كمقاتلة في صفوف التنظيم وكانتحارية تنفِّذ عملياته خارج نطاق أراضيه. ركَّز تنظيم «الدولة الإسلامية»، على نحو غير مسبوق داخل التنظيمات الإرهابية، على استقطاب النساء من جميع أنحاء العالم، بعدما قدَّم مشروعًا جديدًا، مصوِّرًا نفسه أنه أرض «الأحلام» وأرض «الخلافة» وهي الصورة التي تخلق وتعزز سؤال الهوية لدى المرأة مثل الرجل، في ظل ظروف سياسية وثقافية ولحظة تاريخية تدفع في الاتجاه نفسه. وقد نجحت دعايته الإعلامية المكثَّفة في إيجاد آذان مُصغية عند نساء من مختلف الجنسيات والبيئات والثقافات، وخصوصًا عند الشابات الصغيرات اللاتي وجدن في قواعد التنظيم المجْحفة والممنوعات، نموذجًا مضادًّا يتيح لهن تحقيق الذات، أو ما يعتقدن أنه كذلك. لم يكن يُنظر إلى نساء تنظيم «الدولة الإسلامية» على أنهن يشكِّلن تهديدًا للأمن الوطني، وبخاصة أن التنظيم كان يوظِّفهن، في البداية، في أعمال لوجستية بعيدًا من الأعمال القتالية، وغالبًا ما كانت السلطات المختصة تتعامل مع النساء العائدات بكثير من الليونة، لكون السجن يمكن أن يكون، في حالتهن، بيئة للتطرف أكثر مما دخلنه. ومع ذلك، ففي عام 2014، أُلقي القبض على 96 امرأة بتهم تتعلق بالإرهاب، وفي عام 2015 بلغ عدد النساء المعتقلات 171 امرأة، مقابل 180 في عام 2016، و123 في 2017.

فمن أجل استقطاب وتجنيد عناصر نسائية من جُلِّ دول العالم، اعتمد تنظيم الدولة على شبكات إعلامية ودعوية ولوجستية محترفة، ألقى شباكه على النساء اللاتي. يُعتقد أن لديهن القدرة أو الحافز العاطفي أو الديني أو الدافع الاجتماعي أو الانتقامي للتفاعل مع الخطاب المتطرِّف. ومن هنا اعتمد تنظيم «الدولة الإسلامية» في استراتيجيته الخاصة لاستقطاب النساء على عدة مستويات في الخطاب الذي يستهدفهن بحيث حرص في بلورة خطته على مراعاة الفوارق والاختلافات من حيث الجغرافيا واللغة والعادات المجتمعية والقضايا التي تعيشها المرأة في كل منطقة. وكان دليله لاستهداف النساء في الخليج ليس هو نفسه لاستقطاب النساء في منطقة شمال أفريقيا، وكانت استراتيجيته لتجنيد النساء الغربيات، ليست هي نفسها التي استعملها بخصوص النساء العربيات. لقد نجح التنظيم في العزف على وتر كل طبقة وكل فئة يتوجَّه إليها، مستخدمًا أساليب ولغة تكون هي الأقرب للمتلقية التي سرعان ما تجد نفسها خارج حدود وطنها وداخل أسوار التنظيم. أظهر تنظيم الدولة قدرة خارقة على إقناع العنصر النسائي وتجنيده بأساليب وطرق تختلف بحسب تأثير الوازع الديني، والوضع الاجتماعي أو النفسي للفئات المستهدفة.

"إن استهداف تنظيم الدولة للنساء والفتيات يعكس رغبته الحثيثة في تحقيق استقرار مجتمعي قائم على بناء مجتمع متكامل، تسخَّر فيه جميع العناصر لخدمة أهداف التنظيم. ولقد أدّت المرأة أدوارًا مختلفة ضمن هذه المنظومة، وزَّعها التنظيم على نسائه ببراغماتية شديدة وبتناقض كبير بين ما يدَّعيه عبر خطاباته وبين ما يقوم به فعليًّا على أرض الواقع.  كانت حاجة تنظيم «الدولة الإسلامية» في بناء دولته إلى نساء يعتمد عليهن لتكوين عائلات وضمان استمرارية التنظيم. فقد كانت حاجة التنظيم الماسة إلى النساء، منذ البداية من أجل إظهار صورة دولته بأنها مجتمع متكامل بنسائه ورجاله وأطفاله. فالفتيات الأوروبيات أسهل استقطابًا من النساء العربيات ونساء دول العالم الثالث، لكونهن أكثر نشاطًا على شبكات التواصل الاجتماعي وأكثر استقلالية عن أسرهن. من ثم فقد كان لديهن استعداد للانفصال عن عائلاتهن من أجل الانضمام إلى مجتمع جديد. وقد بلغ متوسط أعمارهن نحو 18 عامًا. وقد تمت دعوتهن إلى مجتمع جديد يكنَّ فيه زوجات «لأبطال مجاهدين»، حيث يرسمون لهن صورة وردية للحياة تحت حكم تنظيم الدولة. فـ أتقن تنظيم «الدولة الإسلامية» لعبة الاستقطاب الإعلامي ووظَّف كل العوامل الانفعالية والسلوكية والإدراكية لتجنيد النساء لخدمة طموحاته التي ميز فيها جيدًا بين طرائق استقطاب النساء العربيات والغربيات، ليكنَّ جميعهن أداته في إثبات جاذبية مشروعه الذي لقي استجابة من جميع أطياف المجتمع، رجالًا ونساءً وأطفالًا. وليكنَّ، أيضًا، وسيلته الفتَّاكة لنشر فكره المتطرف وتمرير رسائله الهدَّامة إلى أجيال جديدة من الإرهاب. وليكنَّ، أخيرًا، قنابله الموقوتة القادرة على القيام بعمليات نوعية إما بشكل انفرادي أو منظَّم، كلما احتاج التنظيم ذلك. ورغم ادعاءات التنظيم الباطلة بأنه يحفظ للمرأة مكانتها ويعيد إليها كرامتها، فقد كان أسوأ من استغلَّها واستعبدها. حيث تحدثت زينب بانجورا مبعوثة الأمم المتحدة لقضايا العنف الجنسي في مناطق الصراع عن ورود قصص متعددة مروِّعة عن بيع النساء الجميلات وشرائهن في أسواق رقيق تنظيم الدولة، وروايات لم تسمع عنها في تاريخ عملها بمناطق الصراع بغرب أفريقيا وغيرها. وقالت بانجورا إن التنظيم يفصل النساء عن الرجال، ويذبح الأطفال الذكور فيما فوق 14 عامًا. ويفصل أيضًا النساء عن الفتيات العذارى اللاتي يخضعن لكشف العذرية بعد تعريتهن، وعرضهن لاختبارات مقاييس الجمال بحسب الأكثر إثارة، لكي يحدَّد سعر كل فتاة قبل إرسالها إلى الرقة. وأضافت، أن شيوخ التنظيم يحظون بأكثر الفتيات إثارة، ثم يليهم أمراء التنظيم، ثم مقاتلوهم. ويحصل كل منهم على ثلاث أو أربع نساء على الأكثر للزواج منهن، بينما يبقى نصيب كل فتاة مع قيادات التنظيم لا تتعدَّى المئة يوم، تُباع بعدها في أسواق الرقيق بأسعار زهيدة. وتحدَّثت عن فتاة تم بيعها أكثر من 22 مرة في أسواق الرقيق، حيث قام أحد مشايخ التنظيم بكتابة اسمه على ظهر يديها، بوصفها ملكيته الخاصة. وأشارت أيضًا إلى حادثة مروِّعة لحرق فتاة رفضت الانصياع لأوامر أحد القادة. وأكدت أن أكثر الأقليات التي تعاني الاضطهاد هي الأقلية الإيزيدية، التي تعدّ، من وجهة نظر التنظيم، ملحدة أو من عبدة الشيطان. كما كان هناك تمييز كبير بين النساء في التنظيم يقوم أساسًا على الجنسية والسن والحالة الاجتماعية. فالنساء العازبات والأصغر سنًّا يتقلَّدن مناصب الشرطة، وتراوح أعمارهن بين 18 و25 سنة. كما تتمتَّع حاملات الجنسيات الغربية بامتيازات في الرواتب والمسكن، ويتزوجن من قياديي التنظيم، ويسمح لهن بتجاوز طابور الخُبز وعدم الدفع في المستشفيات. كما يسمح لهن بإنشاء حسابات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي. وفقًا للائحة أسعار وفيها يبلغ سعر الفتيات الصغيرات 165 دولارًا، ويتناقص السعر بتقدم العمر، ليصبح 41 دولارًا، لمن هن في سن 40 سنة فما فوق. سعى تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى استقطاب نساء حول العالم وإقناعهن بفكره المتطرف، مؤكدًا ضرورة هجرة النساء إلى دولته المزعومة وإعلان الانتماء إليها، مع اعتبار كل الدول الأخرى كافرة، بما فيها الدول الإسلامية. واختلف هذا التنظيم، عن باقي التنظيمات الأخرى، كونه أعطى مساحةَ عملٍ كبيرة ألهبت حماس المراهقات ونساء كثيرات من أوروبا والدول الغربية ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ممن التحقن بالتنظيم وأعلنَّ عن ولائهن له، وإيمانهن بمبادئه التي أقسمن على الوفاء لها والإخلاص لخلافته المزعومة. بينما قام التنظيم بإشراكهن في بناء دولته المزعومة كزوجات للمقاتلين، وأمهات لأطفاله (مقاتلي المستقبل)، وكقائدات ميدانيات أيضًا، بعدما أقنعهن بأنهن يصنعن الحاضر وأنهن قادرات على التأثير في الشؤون الدولية ومستقبل العالم. كما وعدهن بالامتلاء الروحي في الحياة الدنيا، في كنَف التنظيم، وفي الحياة الآخرة، على حدٍّ سواء.

كانت أولى آليات توظيف النساء لدى تنظيم «الدولة الإسلامية» من طريق الزواج، والتعدد، وتأصيل زواج القاصرات، مع تحريم استخدام موانع الحمل، بغرض تحقيق امتداد الأجيال المتطرفة. ما أدخل نساء التنظيم في متاهة من الزيجات المتتالية. خصَّص التنظيم مكتبًا للزواج، ومن خلاله تم، في بعض الأحيان  تزويج امرأة واحدة لأزيد من 10 مقاتلين بصورة متتالية، بحيث غالبًا ما تُسلّم الأرملة كزوجة لمقاتل آخر  وبعد مقتله تُسلّم لمقاتل آخر، وهكذا. فطالما كان الزواج وإنجاب جيل من المتطرفين أحد أهم أهداف التنظيمات الإرهابية بصفة عامة، وتنظيم الدولة بصفة خاصة، فقد أوكل إلى المرأة هذا الدور بوصفه الأهم لضمان استمرارية التنظيم. ركَّز دليل المرأة في الدولة الإسلامية على دور المرأة المتمركز أساسًا في الزواج والأمومة ودعم الأسرة، وخدمة مقاتلي التنظيم وقضاء حاجاتهم وتوفير الطعام والتنظيف والتمريض. وكانت نوعية النساء المستهدفات هنَّ النساء المحرومات أي نوع من التعليم العالي واللاتي لم يتمكنَّ من الحصول على وظائف مهمة. وقد كان التركيز هنا على الشابَّات المنحدرات من الطبقة الدنيا في العالم العربي، حيث قام التنظيم بتسليط الضوء على أوضاعهن الاجتماعية الصعبة وما يتحمَّلنه من أعباء على عاتقهن. لقد كان الهدف من ذلك هو إقناع أكبر عدد من النساء بحاجتهن إلى مجتمع بديل، مقدِّمًا بذلك وعودًا بحلِّ جميع مشاكلهن والاستجابة لكل مطالبهم على طريقته التي عرضها في الدليل.

فقد كانت محاولة التنظيم التأسيس لنظام مجتمعي جديد الكل فيه يقاتل، الأب والأم والطفل، حتى يستطيع الاستمرار، مستغِّلًا انجذاب الكثير من النساء للإسلام المتشدِّد. مع تكثيف الحرب ضد التنظيم والانهيار الميداني له، لم يتوانَ عن توظيف النساء في عمليات إرهابية، على اعتبار أن النساء في هذه المرحلة هنَّ الورقة الرابحة للتنظيم. وقد شهد شهر تموز/يوليو عام 2016 تنفيذ ثلاثة تفجيرات من جانب مجنَّدات تنظيم الدولة. وهذا ما يفسِّر اهتمام التنظيم المتزايد بتجنيد نساء عن بُعد. فإذا ما شدَّدت السلطاتُ الأمنية الرقابةَ والمتابعة الأمنية على عناصر التنظيم من الرجال، هناك دائمًا نساء مستعدَّات لتنفيذ عمليات لحساب تنظيم الدولة سواء داخل نطاق سيطرته أو خارجها. وهذا ما أكسب التنظيم مزيدًا من الصمود ودفعه إلى ادِّعاء القوة والاستمرارية رغم الهزيمة الفعلية على الأرض. مع توالي الهزائم بدأ تنظيم الدولة يدعو نساءه إلى المشاركة في القتال، وهذا ما يخالِف مزاعمه عن التزام المرأة بأدوار تقليدية وضرورة جلوسها في البيت. وقد قام بتوسيع أدوار المقاتلات الراغبات في دور قيادي داخل التنظيم من خلال تأليف كتيبة من الانتحاريات. أما خارج الأرض التي يسيطر عليها، فيميل إلى توظيف المرأة في أعمال انتحارية، لأنها أقلُ إثارةً للشكوك عند أفراد الأمن، لتكون بذلك الأفضل في اختراق الأنظمة الأمنية . وظَّف تنظيم «الدولة الإسلامية» المرأة في أدوار مختلفة، واستغلَّها بصورة غير مسبوقة بعدما استخدمها  في البداية، كأداةٍ لتنفيذ أجنداته التوسعية، ثم استغلها، بعد ذلك، في تنزيل استراتيجيته التنفيذية، ثم حوَّلها في آخر المطاف إلى أداة انتقامية بعد خسارته الأرض. 

فتغيَّرت نظرة التنظيمات الإرهابية إلى دور المرأة ومشاركتها داخل التنظيم وخارجه، وتبدَّدت الصورة النمطية حولها بوصفها سلبية أو عاجزة، بعدما أثبتت المرأة قدرتها على المشاركة، شأنها في ذلك شأن الرجال، داخل التنظيمات الإرهابية.

فكيف لتنظيم اشتهر بدمويته وعنفه الشديد أن يستقطب نساء من جُل بلدان العالم من فئات اجتماعية متنوعة وبمستويات تعليمية صُنِّفت بين متوسطة وجيدة؟ وكيف تمكَّن من دفعهن إلى التضحية بالرفاهية والحياة المستقرَّة والمتحرِّرة في بلدانهم الأصلية، من أجل التقيُّد بأحكام متشدِّدة، وتحمُّل مخاطر مختلفة في سبيل الالتحاق بالتنظيم والانضواء تحت لوائه وتنفيذ عملياته؟ انضمت الكثير من النساء إلى صفوف تنظيم «الدولة الإسلامية» لأسباب متعددة، لا بدَّ في سياق الحديث عنها من التمييز بين النساء اللاتي دعمن التنظيم (المتعاطفات)، والنساء اللاتي شاركن في أنشطته المختلفة (المجنِّدات والمشاركات في العمليات اللوجستية)، والنساء اللاتي تورطن فعليًّا في العنف (المرتكبات سواء كن مقاتلات أو انتحاريات). فقد داعب النموذج الذي قدمه تنظيم الدولة، مخيّلة الكثير من النساء العربيات والغربيات اللاتي اقتنعن بفكره المتشدِّد، وتبنَّيْن أطروحاته، وهجرن حياتهن الطبيعية وهاجرن للعيش في ظل «دولة»، تنسجم قوانينها وثقافتها ونمط الحياة داخلها (أو ما تروِّج له إعلاميًّا على الأقل)، مع ما يستجيب لأحلامهن وتصوراتهن. وإذا كانت أسباب ودوافع كل فئة منهن تختلف عن الأخرى، فقد التقين جميعًا في الإحساس بالواجب تجاه ما يمكن القيام به من أجل «الدولة الإسلامية» الوليدة، التي عرَضت رؤيتها الخاصة لحياة الخلافة، وهي الرؤية التي لاقت صدًى مقبولًا لدى هؤلاء النساء. إن الأسباب التي تدفع النساء إلى الانتساب إلى تنظيم إرهابي كتنظيم «الدولة الإسلامية»، كثيرةٌ وتتجاوز كل المسلَّمات التقليدية التي تنظر إلى المرأة ككائن ضعيف أو مجرد ضحية مغرَّر بها، أو أنثى ساذجة وخاضعة للرجل. فالأسباب التي دفعت مئات النساء للانضمام إلى التنظيم؛ ولا تزال تدفع أخريات إلى تبنِّي فكره والتعاطف مع هزائمه؛ أو تسهيل أو تنفيذ عملياته، استجابةً لخطابه ورسائله الملغومة، لا يمكن في أي حال حصرها في «عروس الجهاد» التي تبحث عن أن تكون «قُرَّة عين الجهاد»، كما صورتها بعض وسائل الإعلام. فالأسباب التي دفعت أغلب النساء إلى الالتحاق بتنظيم الدولة متداخلةٌ ومتشابكةٌ أيضًا، وتستلزم الوقوف عندها وتحليلها، بدلًا من حصرها في خانة ضيقة ومبسَّطة

إذا كانت دوافع بعض الفتيات الصغيرات للتوجُّه إلى سورية هي البحث عن مشاعر الحب أو البحث عن وجه آخر للرومانسية التي تلاشت في عصر طغت عليه الماديات، إلا أن ما دفع غيرهن الكثير للالتحاق بالتنظيم  هي نفسها العوامل التي تدفع الرجال ليصبحوا إرهابيين وبالطريقة نفسها. فمستوى تطرُّف المرأة وقسوتها لا يقل عن الرجل، فهي أيضًا باتت تنفِّذ أحكام القصاص، وترحِّب بإعدام الرهائن، وتنفِّذ عمليات داخل أراضي التنظيم وخارجه. لكن الكثير من النساء اللاتي انضممن فعلًا إلى التنظيم وجدن في الأمر نوعًا من إثبات الذات، والرغبة في الانتقام من بعض ما يحسبنه ظلمًا تعرضن له مباشرة أو لمسن تعرض مجتمع آخر له إضافة إلى الرغبة في التمكين، والبحث عن فرصة للعيش في مجتمع يسوده التديُّن الذي يلتزمن به بعيدًا من التمييز والوصم الذي يلقينه في بلدانهن الأصلية. أيضا من الأسباب التي تدفع النساء إلى الانتساب إلى تنظيم إرهابي كتنظيم «الدولة الإسلامية» كانت دوافع مرتبطة بالقلق البالغ من الظلم الذي يتعرض له الشعب السوري. وقد تمَّ إقناع النساء عبر أشرطة الفيديو على موقع يوتيوب بالمعاناة التي يتعرَّض لها الشعب السوري، والظلم الذي يتعرَّض له تحت حكم نظام الأسد. من هنا، حرَّض التنظيم، نساء من كل أنحاء العالم على الانضمام إلى صفوفه، ولا سيما أنها تقول إن الشعب السوري يتعرَّض لهجوم داخلي مقابل صمت القوى الغربية، وأن الدفاع عن هذا الشعب ودعمه بات أمرًا وواجبًا ضروريًّا. كان هذا الدافع الإنساني الناتج من الشعور بالظلم سببًا في دفع عدد من الغربيات للالتحاق بتنظيم الدولة. فهؤلاء النساء نشأن على القيم الغربية، كالعدالة، والمساواة، واحترام حقوق الإنسان.

أيضا من الأسباب التي تدفع النساء إلى الانتساب إلى تنظيم إرهابي كتنظيم «الدولة الإسلامية»  من خلال طرح فكرة «دولة الخلافة»، أو التهويل بحرب «آخر ساعة»، أو التحفيز بدعوى التوبة ودخول الجنة، أحد الأسباب التي دفعت مجموعة من النساء إلى تبنِّي الفكر العنيف والاستماتة في الدفاع عنه، لكنَّها لم تكن الوحيدة أيضًا، بل كانت هناك أسباب أخرى، منها ما هو معقول ومنها ما هو أشد تعقيدًا ويحتاج إلى الكثير من الدراسة والتحليل.

وعلى الرغم من أن الزواج لم يكن السبب الوحيد الذي دفع النساء للانضمام إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» فقد شكَّل أحد العوامل التي دفعت مجموعة من المراهقات، الغربيات تحديدًا، إلى الذهاب لسورية للقاء «فارس أحلامهن» المقاتل الذي تمَّ التعرف إليه عبر منصَّات التواصل الاجتماعي ووقعن في شباك تجنيده.

أيضا كان دافع بعض النساء للالتحاق بتنظيم الدولة هو السعي إلى الشعور بالانتماء والتجمع في مجتمع متجانس ووجود هوية جماعية. فقد أدَّى شعور بعض الفتيات بالغربة، وأحيانًا بالتمييز والعزلة في مجتمعاتهن، الغربية منها والعربية، وبروز سؤال «الهوية الدينية»، نتيجة عجز المجتمعات، وخصوصًا الغربية، عن دمجهن، كان أحد الدوافع وراء قرار ترك حياتهن وهجر أوطانهن من أجل الالتحاق بصفوف التنظيم. فقد عمَّق الشعور بالاغتراب أزمة الهوية والانتماء لدى الكثير من النساء الغربيات وسهَّل عملية انجذابهن نحو تنظيم الدولة. ويشكِّل قانون منع الحجاب وحظْر ممارسة الشعائر الدينية بحرية أحد أسباب لجوء الأوروبيات المسلمات إلى مجتمع بديل. هذا المجتمع وجدنه في خطابات تنظيم «الدولة الإسلامية» وأطروحاته، وبخاصة بعدما وجدن أنفسهن، إن أرَدْنَ ارتداء الحجاب أو النقاب متَّهمات بكونهن خارجات عن القانون في بلدانهن الأصلية، كما قد يهمَّشن في أماكن العمل، أو يُتجاهَلهن في بعض الوظائف، وقد تتعرَّض بعضهن لمضايقات عنصرية في الشارع لمجرد اختيارهن طريقة لباس معينة. كما أن الكثير من النساء المتحولات إلى الدين الإسلامي، في المجتمعات الغربية، يعانين حالة اغتراب داخل مجتمعاتهن. فمعظم الغربيات المنضمَّات إلى تنظيم الدولة، يأتين من أسر ملحدة، أو مسيحية كاثوليكية، ويهودية، ترفض فيها هذه الأسر اعتناق أبنائها الإسلام، ما يدفعهن إلى السفر للالتحاق بالتنظيم من أجل العيش تحت راية «دولة إسلامية» لا يشعرن فيها بالاغتراب.

ومن الأسباب التي تدفع النساء إلى الانتساب إلى تنظيم إرهابي كتنظيم «الدولة الإسلامية» حيث يعدُّ ترمُّل نساء ما يطلق عليهم «جهاديين» عاملًا من العوامل التي تدفع التنظيمات الإرهابية إلى استغلال مشاعر الغضب، والرغبة في الانتقام، فيحفِّزن هؤلاء النساء على العمل لمصلحة التنظيم، حيث غالبًا ما تكون رسالتهن أكثر عنفًا وصلابة بعد مقتل أزواجهن أو أبنائهن أو آبائهن. وهنا تتحوَّل مشاعر الحزن لديهن لفقدان الزوج والقريب، إلى رغبة في الانتقام من خلال التطوُّع للعمل في التنظيم، وتأدية أدوار يمكن أن تصل إلى تنفيذ عمليات انتحارية. كما كشفت مجموعة من التقارير الدولية، بات عدد كبير من النساء أكثر ميلًا وتجاوبًا مع الخطاب التحريضي الذي يبثُّه تنظيم الدولة، الذي لجأ إلى الاستعانة بالنساء لسدِّ النقص في عدد مقاتليه بعدما شنَّت قوات التحالف حربها عليه. وقامت النساء فعلًا بتلقِّي التدريبات العسكرية للمشاركة في القتال  وأصبحن خيار التنظيم لإنقاذ مشروعه، وإثبات أنه لا يزال يستمتع بجاذبية وأنه لا يزال قادرًا على تجنيد نساء من كل العالم، يقاتلن، مثلهن في ذلك مثل الرجال، من أجل بقاء التنظيم. فلكل امرأة أسبابها ودوافعها النفسية للالتحاق بالتنظيم الإرهابي، وتبنِّي التطرف كثقافة والعنف كسلوك.

بحسب تعبير المحللة النفسية «ميلاني كلاين»؛ وأن مشاعر الإحباط الناتجة من تراكم الفشل والخيبة  وتبخيس الذات هي عوامل ودوافع سيكولوجية لاشعورية تتراكم عند الفتاة التي تعيش مضطهَدة في أسرتها ومحيطها وتعجز عن توفير الأمن النفسي لها. كما أن بعض النساء اللاتي عانين الصدمة في طفولتهن أو خلال مرحلة المراهقة، أو عشن بعيدًا من كنف أُسرهن، يطمحن إلى نسيان هذه «الصدمات» من طريق القطيعة مع عالمهن والاندفاع المتهور إلى عالم جديد. يمكن أن يقدِّم الهروب إلى تنظيم الدولة الإحساسَ بالقدرة على العثور على الذات المفقودة؛ حيث تشعر النساء اللاتي يعانين الهشاشة النفسية بأنهن أفضل داخل التنظيم، وأنهن وجدن، أخيرًا، الفرصة ليكُنَّ نشيطات، ويعشن كما يردن هن. فهن في الغالب لسن مرضى ولكنهن يبحثن عن بناء قوي وعن معنى للحياة. هذا المعنى يتكرَّس أكثر بعد موت الزوج المقاتل؛ حيث إن لقب «أرملة الشهيد»، يُشعر المرأة بالقوة وجاذبية الموت. كما أن الالتحاق بتنظيم متطرِّف يمنح بعض النساء فرصة لممارسة أدوار تقليدية، بعيدًا من ضغوط العمل المزدوج، داخل البيت وخارجه، للمرأة الغربية تحديدًا. وكما سبقت الإشارة، استخدم التنظيم خطابًا مزدوجًا، أحده موجَّهٌ إلى النساء العربيات والمسلمات والآخر موجه إلى الغربيات، لأن طريقة اللعب على الأوتار النفسية تختلف حسب طبيعة الحاجات التي تفتقدها كل فئة.

بالنسبة إلى كثير من النساء اللاتي يلتحقن بصفوف تنظيم الدولة، فإن الانتقال الجغرافي إلى سورية والعراق مثَّل هروبًا من حالة اليأس العامة التي توزعها المجتمعات الديمقراطية الغربية بين شبابها عبر وسائل الإعلام المختلفة وضمن شبكات التواصل الاجتماعي حيث أصبحت لغة الانتقاد هي الأكثر انتشارًا . هذا الانتقاد العام انعكس سلبًا على مجموعة من النساء الغربيات اللاتي بتنَ يبحثن عن مجتمعات بديلة أكثر إيجابية وأكثر زرعًا للأمل. كما مثَّل الانتقال إلى سورية حلًّا للهروب من المشاكل الشخصية والعاطفية، كأنْ تهرب الفتاة أو المرأة، مثلًا، من أب، أو زوج سكّير عنيف لا يُطاق، أو يخترن الهروب مع عدم قدرتهن على اجتذاب رجل يجدن فيه شريكَ حياتهن المناسب. وعلى الرغم مما تلاقيه النساء من معاملة تمييزية داخل التنظيمات الإرهابية، ومنها على الخصوص تنظيم «الدولة الإسلامية»، واحتجازها في منازل مغلقة في انتظار أزواج مقاتلين محتمَلين، ومنعهن من الخروج منفردات إلى الشارع، وفرض النقاب عليهن، وتعنيفهن في حال عدم الالتزام بما يُفرض عليهن من قوانين مجحفة، إلا أن دعاية التنظيم نجحت في استقطاب عدد كبير من النساء وتجنيدهن، وخصوصًا لدى الشابات اللاتي يجدن في هذه القواعد المجحفة والممنوعات، نموذجًا مضادًا يتيح لهن تحقيق الذات.

لكن النتيجة تبقى واحدة، نساء متطرفات أكثر، يتحوَّلن إلى أدوات عمياء في أيدي تنظيمات إرهابية، ترى في تدريبهن عسكريًّا وحثِّهن على حمل السلاح وخوض غمار المعركة هدفًا سهلًا يعوض خسارة المزيد من مقاتليها. فالإحصاءات تؤكد ارتفاع وتيرة تجنيد النساء بعد الهزائم المتتالية التي مُني بها التنظيم، مقابل ارتفاع نسبة العنف النسائي، بعدما أثبتت المرأة أنها لا تقل عنفًا عن الرجل، إن لم تكن أشد منه بطشًا، وأن المرأة لم تعد ذلك الكائن المستكين أو المفعول به، كما تصورها أدبيات التنظيمات الإرهابية التقليدية، إنما صارت فاعلة داخل التنظيم، وقادرة على القيام بأدوار حيوية ولوجستية وقتالية، وقادرة أيضًا على أن تكون انتحارية أو أن تنفِّذ هجمات انفرادية، فالمرأة هي الورقة الرابحة التي استخدمها تنظيم الدولة في لحظة هزيمته العسكرية.

إن واقع انخراط المرأة في العنف داخل تنظيم «الدولة الإسلامية» كان بارزًا جدًّا، وتجاوز دورها الجانب التقليدي وبات ذا طابع لوجستي وقتالي أكثر. ربما يُعَد توصيف «المقاتلات الأجنبيات» هو الأقرب للواقع الجديد لظاهرة «الإرهاب النسائي». وهو التصنيف الذي يعطيهن صفةً قانونيةً، ويرفع عنهن أي تمييزٍ، مبنيٍّ على النوع، ويحمِّلهنَّ المسؤولية القانونية للالتحاق بتنظيم إرهابي. من هذا المنطلق يجب تقديم وتحليل ظاهرة تبنِّي النساء للعنف والتحاقهن بتنظيمات إرهابية، بدلًا من اعتبارهن دائمًا ضحايا أو مغرَّر بهن.

 

 

 

 

                                      الذئاب المنفردة.. فن المباغتة

ظهر مصطلح «الذئاب المنفردة»، لأول مرة، في وسائل الإعلام والأوساط السياسية الغربية  وتعود تسمية الذئب أو الذئاب لما يتميز به هذا الحيوان من شجاعة وقدرة على اقتناص الفرص والغدر في الوقت نفسه.

لقد استعان تنظيم «الدولة الإسلامية» في الردِّ على هزائمه المتتالية في سورية والعراق، منذ 2015، على تنفيذ هجمات مختلفة في بلدان عربية وغربية، سواء من طريق خلاياه النائمة في تلك الدول، وهي العمليات التي أطلق عليها اسم «غزوات»، أو من طريق أشخاص غير خاضعين هرميًّا للتنظيم، لكن يستلهمون منه الرسائل والتعليمات للقيام بعمليات إرهابية، محدودة من حيث النتائج.

وقبل الخوض في الحديث عن الذئاب المنفردة لا بدَّ، أولًا، من عزلها عن «الخلايا النائمة»، فإذا كان الاثنان يتبنَّيان أفكار ومعتقدات الجهة التي يؤازرانها وينتميان فكريًّا إليها، إلا أنهما يختلفان من حيث عمل ونشاط كل فئة منهما. فالذئاب المنفردة تؤمن بأفكار التنظيم وترغب في التجاوب معه، لكنها لا تنتمي رسمیًّا إليه ولم تنخرط فعليًّا في صفوفه. هو تعاطف وتأیید ودعم من بُعد، ترافقه رغبة عارمة لفعل شيء ما على الأرض  من دون أن یكون التنظيم، الذي آمن الذئبُ المنفرد بأفكاره، يعلم بوجوده، أو بتوجُّهاته، أو بنيّاته التي یتجه إلى تنفیذها؛ وذلك خلافًا لوضع من يوصفون بالخلايا النائمة. تعَدّ عناصر «الذئاب المنفردة» هي الأخطر في الوقت الراهن، لاتساع دائرة التعاطف مع التنظيم، داخل الأوساط العربية والغربية، وهذا يجعل مهمة كشف «مشتبه بهم» شبه مستحيلة، أما الخلايا النائمة، فهم أعضاء منتسبون فعليًّا إلى التنظيم ويتلقون منه التعليمات والأوامر، وربما التدريب أيضًا، لكن غير موجودين معه في جبهات القتال. مهمة الخلايا النائمة أنها تنفِّذ مهمَّاتٍ محددةً داخل الدول التي تقيم بها عناصر الخلية، مع الإبقاء على سرّية انتمائهم للتنظيم ليتمكَّنوا من العيش والتحرُّك من دون قيود ولا إثارة للانتباه. والنتائج التي تؤدي إليها عمليات الذئاب المنفردة، تظل محدودة من حيث الحجم.

 

وهنا نعرَّف الذئاب المنفردة بأنهم أشخاص يقومون بهجمات منفردة من دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيمٍ ما، حتى التنظيم لا يعلم شيئًا عن هذه الذئاب، ولا من يكونون، ولا لأي شيء يخططون. غالبًا ما يكون هؤلاء أشخاصًا عاديين، لا يثيرون ريبة في حركاتهم وسلوكهم.

إن ظاهرة «الذئاب المنفردة» التي لجأ إليها تنظيم «الدولة الإسلامية» بصورة مكثفة في السنوات الأخيرة تعدّ أشد تعقيدًا من ظاهرة المقاتلين الأجانب، لعدة أسباب،

أولًا: رغم كل المحاولات لحصر التعريف، فإنه غالبًا ما وقع خلط في التمييز بين عمليات الذئاب المنفردة وبعض هجمات الخلايا النائمة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، إعلان تنظيم الدولة مسؤوليته بعد كل حادث، وتأكيده أن المنفِّذ سبق وأعلن ولاءه للتنظيم  يسقط عن منفذ العملية، في هذه الحالة، توصيف «ذئب منفرد»، الذي يشترط فيه «ألّا تكون له علاقة واضحة بتنظيم ما»، كما هو متَّفق عليه في التعريفات السابق طرحها.

ثانيًا: ليس هناك ما يكشف هوية الذئب المنفرد، إذ إن أغلب الأشخاص المنفِّذين لعمليات من هذا النوع يكونون من الشخصيات الاعتيادية التي لا تبعث على الشك في سلوكها وحركتها اليومية، وليس لها سوابق عدلية، بما يجعلها بعيدة من شبهات السلطات الأمنية. ومن خلال التحقيقات والتقارير، فإن أغلب «الذئاب المنفردة» ينتمون إلى أوساط غير متديِّنة، ولا يبدو عليهم أي مظهر من مظاهر التشدُّد. أغلب العمليات التي تمت في أوروبا وأمريكا قام بها أشخاص غير مشتبه فيهم، وتم رصدهم لأول مرة عن طريق كاميرات المراقبة  وهذا الأمر هو ما يمثل هاجسًا أمنيًّا في كيفية تحديد هوية تلك الذئاب، قد تختلف الأساليب والطرائق التي يتبعها الذئاب في عملياتهم الإرهابية كهجوم فردي بسلاح، أو عمليات طعن، أو زرع قنابل بدائية الصنع وتفجيرها من بعد، أو دهس المارّين بسيارة أو شاحنة.

وفي اجتماع للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، بتاريخ 20 تموز/يوليو 2016، في واشنطن، أكد وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، جون كيري، أن الجماعات المتشدِّدة ستحاول تحويل نفسها إلى منظمة إرهابية عالمية. ورأى أن «داعش» «تنظيم مرِن وواقعي لأنه يعرف متى يحتاج إلى تغيير»، لذا دعا إلى «تفعيل الاتصالات بين الدول وتبادل المعلومات والتركيز على شنِّ هجمات خارج الأراضي التي يسيطر عليها في العراق وسورية». وفي الاجتماع نفسه أكَّدت الشرطة الأوروبية أن نمط «الذئاب المنفردة» أصبح المفضل لدى «داعش» وهذا يمثل خطرًا داهمًا على أوروبا. لقد شكَّل هذا الاجتماع أول اعتراف دولي بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» يغيِّر تكتيكاته واستراتيجيته بصورة ليست عشوائية وإنما مرنة وتتوافق مع طبيعة ما يتعرَّض له التنظيم من حملات عسكرية في سورية والعراق.

حيث استخدم أبو بكر البغدادي مصطلح «الذئاب المنفردة» في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2014 خلال دعوته إلى استهداف المواطنين الشيعة في السعودية. وفي أيار/مايو 2016، توعَّد تنظيم الدولة عبر مؤسسة «دابق» الإعلامية، بحرب جديدة تحت عنوان «الذئاب المنفردة.. جيش الدولة الإسلامية»، توعَّد فيها «عباد الصليب بقيادة أمريكا، بمواجهة حرب جديدة، تنسف مخططاتهم وتكشف حقائقهم، وتحول بينهم وبين ما يريدونه». وفي كلمته دعا العدناني أتباع التنظيم إلى القيام بعمليات فردية ضد الدول التي تشارك في الحملات ضد التنظيم، بعد الخسائر التي مُني بها واستهداف قياداته، فمن خلال عمليات «الذئاب المنفردة  كان تنظيم الدولة، من ناحية، يحاول تدارُك هزائمه المتلاحقة، ومن ناحية أخرى، كان يحاول إثارة الرأي العام داخل دول التحالف ضده، إن تنظيم الدولة من خلال تركيزه على هجمات الذئاب المنفردة إنما يسعى في ذلك إلى حث الدول المستهدِفة له على التراجع عن قراراتها، إما خوفًا من تكرار الهجمات ضدها، وإما من خسارة تأييد مواطنيها. كما أن ضرب الدول الغربية في عقر دارها يغذي من حالة الإسلاموفوبيا، وهذا يدفع هذه الدول إلى اتخاذ إجراءات مضادة ويزيد من حوادث العنصرية والاعتداء على المسلمين، وهذا بدوره كفيل بإنتاج الظلم والإحساس بالكُره والرغبة في الانتقام، وبالتالي خلق قاعدة أفراد موالين للتنظيم ومستعدين للقيام بالتخطيط وتنفيذ عمليات ضد الدول الموجودين فيها.

يبيح التنظيم للذئب المنفرد الإقبال على السرقة لأن ذلك في نظره «غنيمة»، وليس شيئًا محرمًا، كما يبيح له إقامة علاقة جنسية، كون ذلك «سبيًا» وليس «زنا»، فتنظر إليه الأجهزة الأمنية على أنه مجرم، وهو لا يريد أكثر من ذلك. ما يريده التنظيم هو أن ينجح الذئب المنفرد في صنع هالة مضلِّلة للآخرين من حوله (التقية)، ما يمكِّنه من تنفيذ عمليته، في غفلة من أعين الأجهزة الأمنية. نجح تنظيم الدولة في تعزيز حضوره العالمي من خلال «ذئاب منفردة» أثبتت استعدادها لتنفيذ عمليات متنوعة من حيث الشكل والمكان المستهدَف وعدد الضحايا. وفي المجمل، لا تعتمد عمليات الذئاب المنفردة على هدف نوعي، بقدر ما تعتمد على القتل العشوائي لأكبر عدد من الضحايا، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، والهدف إشاعة الخوف في المناطق المستهدفة، سواء كانت جامعة، أو ملهًى ليليًّا، أو شارعًا أو ملعبًا أو مركزَ تسوق أو حتى مسجدًا.

أو شن هجوم فردي بسلاح يمكن أن يصنع في البيوت أو يُشترى بصورة قانونية، أو دهس المارة بسيارة أو شاحنة، أو تجنيد شخص داخل جهاز حكومي في دولة ما لتنفيذ عملية أمنية نوعية بتخطيط وتمويل ذاتي وبسرية تامة.

يعدُّ تنظيم «الدولة الإسلامية» من أكثر التنظيمات الإرهابية التي استطاعت إرباك الأجهزة الأمنية للدول الغربية من خلال نقل المعركة إلى أرض «العدو» بواسطة هذه العمليات الفردية. وقد نجحت استراتيجية الذئاب المنفردة، في تحقيق أهداف التنظيم المتمثلة أساسًا بإثارة الرعب في عمق الدول الغربية، وإثارة القلق من إمكان عودته لبناء قدراته، مرة أخرى، عن طريق تحوُّله إلى شبكة عالمية.

سؤال: ما الذي يقود هؤلاء إلى القيام بعمليات عنف فردية؟ وما السمات الشخصية لهؤلاء المنفذين؟ هناك   نقص كبير في الأبحاث والتحليلات المتعلقة بدراسة حالة «الذئاب المنفردة» وأسباب التحوُّل لديهم أو دوافعهم لارتكاب أعمال إرهابية، وبخاصة أن الدافع الديني أو الأيديولوجي لم يكن دائمًا هو المحرك، وهو ما يجعل الكثير من هذه الهجمات تتحوَّل إلى وسيلة جذابة إما للتعبير عن النفسية المختلَّة وإما للتعبير عن الغضب أو الحقد والرغبة في الانتقام. قد يكون هناك أفراد، إمَّا لا يملكون الوسائل والفرص للانضمام لتنظيم إرهابي، وإما أنهم فعليًّا لا يرغبون في ذلك. ومع ذلك فهم يقومون بعملية إرهابية، لأسباب نفسية أو اجتماعية للتعبير عن غضبهم، حيث يبدو أن الكثير من الذئاب المنفردة التي قامت بهجمات في الآونة الأخيرة لم تكن ذات ميول متطرِّفة، ولكنها قد وجدت غايتها في ارتكاب أعمال العنف.

فالدوافع التي تقود الذئاب المنفردة إلى تنفيذ عملياتها، إما دوافع نفسية: كأن يكون الشخص يعاني تحديات عائلية، أو وظيفية، أو مجتمعية فيقوم بالانتقام من محيطه كرد فعل على ما يشعر به. وإمَّا تكون لديه توجُّهات عقائدية أو أيديولوجية، وهذا النوع يكون الأخطر دائمًا؛ لأن ما يحركه هو نصرة الفكر الذي يؤمن به، والتنظيم الذي يعدُّه ممثلًا لهذا الفكر أو مدافعًا عنه. أيضاً هناك عوامل نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية تتداخل فيما بينها لتنتج في النهاية نوعًا جديدًا من الإرهابيين، ربما هم الأسوأ، لأنهم في حالة يأس أو غضب أو هشاشة نفسية. بإمكانات ذاتية بسيطة يمكن أن ينفِّذوا عمليات تهدد حياة أناس كثيرين  وتشعرهم دائمًا بالخوف وعدم الاطمئنان لأي مكان يرتادونه.

على الرغم من أن الذئاب المنفردة لا تنتمي تنظيميًّا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية»، وأنها لم تخضع لأي تدريب، وأنَّها في الغالب تعتمد على تمويل ذاتي، إلا أن الربط بين تنظيم الدولة ومرتكبي تلك العمليات يزيد من التأثير النفسي لتلك الهجمات في المواطنين، فمجرد ربط العملية بالتنظيم، يضخم من قوة هذا الأخير ويستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام المختلفة، ويزيد من تأثيره السلبي في المواطنين الذين باتوا في حالة رعب دائم، وهذا هو المطلوب تحديدًا. وقد أسهم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في الدور الأكبر في عملية التحوُّل إلى ذئاب منفردة. إن عمليات الذئاب المنفردة تهدف أساسًا إلى إحداث حالة من الرعب والقلق وعدم الثقة في الأجهزة الأمنية، التي تُخفِق في كل مرة في التصدي لها، وهو ما يمنح التنظيم الإرهابي فرصة الادِّعاء بأنه قادر على الهجوم في كل زمان ومكان. فإشاعة الرعب كفيلة بزعزعة ثقة المواطن بالدولة وهذا ما تسعى له كل التنظيمات الإرهابية وتنظيم الدولة، بوجه خاص.

 

 

 

 

 

 

أطفال اليوم .. مقاتلو الغد؟

على الرغم من تركيز تنظيم «الدولة الإسلامية» على تجنيد النساء، واعتمادِه عليهن لسدِّ نقص عدد مقاتليه بعد هزائمه المتتالية، إلا أن المرأة لم تكن الورقة الوحيدة التي استند إليها واستغلها التنظيم، بل كان الرهان الأخطر على الأطفال الذين تم تعليمهم وتأطيرهم وتدريبهم، وهم من مثَّلوا الاستثمار الحقيقي لمستقبل التنظيم المتطرف الغامض، الذي لا بدَّ من الحذر منه والتصدي لكل خططه التدميرية على المدى القريب والمتوسط. «أشبال الخلافة» هو المصطلح الذي أطلقه تنظيم الدولة على الأطفال المجنَّدين في صفوفه دون الـ 18 عامًا. تعود فكرة تجنيد الأطفال داخل تنظيم الدولة إلى المحاولات الأولى لاحتلال قرى الأقلية الإيزيدية في شمال العراق، وما نتج منها من قتل الرجال والشيوخ، وسبي النساء وفرض اعتناق الإسلام على الأطفال وتوجيههم إلى معسكرات التدريب، ليصبحوا أشبالًا. وقد توسَّع التنظيم بعد ذلك في استقطاب وتجنيد أطفال غير الإيزيديين، الذين خضعوا جميعهم لدورات شرعية وتدريب عسكري، حيث تمّت تنشئتهم على الأفكار المتطرفة وتكفير الغير، وتم تدريبهم على القتال بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وعلى الأعمال اللوجستية المتمثلة بالتجسس لمصلحة التنظيم، والحراسة  والوقوف على الحواجز وأعمال السُّخر . ناقلين بذلك رسالة إلى العالم بأن الحرب القادمة هي حرب أجيال  ربما قد تستغرق من 20 إلى 30 سنة، أُعِدَّ لها أطفال حاملون للفكر المتطرف، تمت تنشئتهم منذ نعومة أظفارهم على أمرين فقط: قتل العدو، والولاء المطلق للقائد. وهم بهذه البرمجة يمثِّلون قنابلَ موقوتة إذا لم يتم إبطال مفعولها، قد تنفجر في أي وقت في هذا البلد أو ذاك، إيمانًا بقضية وهمية غرسها التنظيم في عقولهم الفتيَّة وسيدفع العالم أجمع ثمنها. كان الأطفال المجندون يُستخدمون في التجسس والاستطلاع  وفي نقل الإمدادات والمعدات العسكرية، وتنفيذ الدوريات، وتشغيل نقاط التفتيش، وتصوير الهجمات بالفيديو للأغراض الدعائية، وزرع الأجهزة المتفجرة، وتنفيذ الأحكام والمشاركة الفعلية في الهجمات أو حالات القتال. أقدمت الجماعات الإرهابية بمختلف أسمائها وتلويناتها على استخدام الأطفال بصورة بشعة، حيث عملت على استغلال ظروفهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية وصغر سنهم وانعدام وعيهم الفكري. وتم تأجيج مشاعرهم وشحنهم بأفكار الجهاد وقتال من أقنعوهم بأنهم «الكفار» و«الأعداء»، ليتم نقلهم فيما بعد إلى ساحات المعركة، للقيام بأدوار لوجستية أو قتالية أو انتحارية. تستغل التنظيمات الإرهابية سهولة إقناع الأطفال لتلقينهم الفكر المتطرِّف وتدريبهم على حمل السلاح، حيث يبدو الأطفال دائمًا أكثر حماسةً وأقل إبداءً للمقاومة، وكأنهم تحوَّلوا في لحظة تخدير وغسيل دماغ إلى شخصية كارتونية قادرة على القيام بعمل نبيل يتمثَّل بإنقاذ العالم (التنظيم) ممن أقنعوهم بأنهم  «الأشرار». وعند فشلها في الإقناع الطوعي، تقوم هذه التنظيمات بإرغام الأطفال على الالتحاق بصفوف المقاتلين ومجموعات المساعدة واللوجستيك، ولا سيَّما في العراق وسورية واليمن وأفغانستان ونيجيريا والسودان والصومال. وبما أن الأطفال غالبًا ما يبدون أقل إثارة للشبهات، فإن استغلالهم غالبًا ما يؤدي إلى تنفيذ مهمّات أكثر نجاحًا. لم يهتم تنظيم «الدولة الإسلامية» بتجنيد عدد من أشباله وتدريبهم فحسب، ولكنه راهن على أكبر عدد من الأطفال، في سورية والعراق، الذين أجبر أهاليهم على إرسالهم إلى مدارسه التعليمية التي فرض سيطرته عليها بعدما قام بإخضاع المدرِّسين لدورات شرعية، وصوغ مناهج جديدة تتمشى مع عقيدة التنظيم ورغبته في السيطرة على عقول الأطفال وتطويعهم لفكره. فلأكثر من عامين تلقَّى هؤلاء الأطفال دروسًا في الفكر المتطرِّف والعقيدة العنيفة للتنظيم، وهو ما قد يتطلب عدة أعوام لمحو هذا الفكر وإعادة إدماجهم داخل مجتمعات أكثر اعتدالًا وتسامحًا. فرض تنظيم الدولة سيطرته على الكثير من المدارس والمساجد التي حوَّلها إلى مقارَّ تعليمية خاضعة لإشرافه المباشر. عمَد التنظيم، في بادئ الأمر، إلى إيقاف الدراسة في مناطق سيطرته كليًّا، إذ أغلق المدارس وأحرق جميع الأوراق الرسمية للطلاب، وقد برَّر ذلك بكون مناهج النظام السابق تسعى إلى الكفر، وتعمل على ترسيخ مبادئ العلمانية. ثم قام بعد ذلك بتوزيع أقراص رقمية على المعلمين في الموصل وبعض مناطق ريف دير الزور  تحوي منهاجًا مؤقتًا يقتصر على بعض المواد الأساسية كالرياضيات واللغة العربية. بالتزامن مع ذلك استدعى التنظيم المدرسين والمدرسات في هذه المدارس، وأخضعهم لـ «دورة استتابة» في المدارس والمساجد؛ ليُستتابوا عما قاموا به من تدريس مواد أطلق عليها التنظيم «مناهج الكفار». ثم أخضعهم لدورات سمّاها «الدورات الشرعية»، لم تهتم بإعطائهم تقنيات تتعلق بآليات التعليم، بقدر ما كان التركيز فيها فقط على الأمور الشرعية، ما يعكس رغبة التنظيم في أدلجة المعلمين والمعلمات، أو على الأقل تكوينهم على تلقين أيديولوجيته، نظرًا إلى حساسية عملهم وأهميته في التواصل مع الجيل الذي يرغب في أن يتشرَّب مبادئه وقناعاته ويكسب عقله وتعاطفه. وتكوَّن منهاج النساء من: الفقه، العقيدة، التفسير، سورة الأحزاب، منهج السالكين، في حين يتم الاكتفاء مع الرجال بالعقيدة فقط. بعد إخضاع المدرسين لدورات شرعية راوحت مدتها بالمجمل بين شهر ونصف وشهرين، قام التنظيم بهيكلة الدراسة وإعادة فتح المدارس بعد طباعة المناهج المعتمدة من جانبه، والتي تتفق مع مبادئه وأفكاره. وقد عدِّلت المواد بصورة جوهرية، وبعضها أُلغِي نهائيًّا، منها: مادة اللغة الفرنسية، والتربية الدينية الإسلامية، والتربية الدينية المسيحية، وعدد من المواد التي ترتقي بروح الطفل وذوقه العام مثل التربية الموسيقية والتربية الفنية  لأن التعليم واحدٌ من الخطوط الأمامية الأكثر أهمية لدى تنظيم الدولة، فقد استحدث التنظيم نظامًا تعليميًّا يتماهى مع رؤيته الدينية، ونَشر مناهج تعليمية خاصة به، بهدف إعداد الأطفال نفسيًّا، وإيمانيًّا، وسياسيًّا  وعلميًّا، وبدنيًّا، ليكونوا قادرين على الوفاء بواجبهم الديني المتمثل بالدفاع عن «دولة الخلافة»، والقيام بواجب الجهاد ضد «الكفار» أينما كانوا. وقد كان «ديوان التعليم» من أول الدواوين التي أنشأها التنظيم في عام 2015، وبعده أُعلن عن بدء التسجيل في المدارس التابعة للديوان من الصف الأول إلى الصف التاسع إلزاميًا، وتم تهديد كل من يمتنع عن إرسال أولاده للتعليم بالخضوع للمساءلة والعقوبة. وقام التنظيم بتطبيق الحدِّ ـ يبدأ من غرامات مالية ويصل حتى الإعدام ـ على أيِّ مدرس يعود إلى تدريس مناهج النظام السابق، أو حتى قيامه بإعطاء دروس خصوصية. وكان أحد الأهداف الأولى للنظام التعليمي للتنظيم هو إبقاؤه إسلاميًّا، ومن ثم «رد أبناء الأمة الإسلامية إلى جهاد التوحيد تحت راية الخلافة ووفقًا لذلك فإن التنظيم معنيٌّ «بإعداد جيل من المجاهدين القادرين بدنيًّا وعقائديًّا وفكريًّا وعلميًّا وسياسيًّا. كان هدف التنظيم من البداية تلقين الطلاب معلومات من أجل حفظها فقط، وليس فهمها أو مناقشتها. وخصَّص التنظيم مساحةً، على أغلب صفحات مناهجه، لمربَّعٍ بارز يوضح مبادئه ومفاهيمه. وهدف التنظيم، من تكرار هذه الصور والإصرار على هذه المسميات والتذكير المستمر بمبادئه، هو غرس أفكاره وشعاراته في نفوس الأطفال حتى تصبح جزءًا من إيمانهم ومعتقداتهم. وعمل التنظيم أيضًا على تشكيك الطلاب في أقرب المقرَّبين إليهم، من خلال طرح سؤال عن كيفية التعامل مع الأقرباء الذين يحاربون الله ورسوله؟ بعد أنْ أقنعهم أنَّ من لا ينصاع لأوامر التنظيم فهو ممن يحاربون الله ورسوله وإن كان مسلمًا. وهنا تأتي رغبة التنظيم في خلق عزلة بين الطفل الطالب وعائلته، وأيضًا تحريضه ضد من لا يتبعون عقيدة التنظيم من الأهالي. ويؤكد مؤلف المنهج ضرورة تثقيف الجيل القادم من خلال الادِّعاء بأن: «الأمة قد دخلت في صراع أيديولوجي، ويهدف الأعداء طمس هويتنا الإسلامية وقلب عقيدتنا التوحيدية»، وهو ما يسهم في شعور الطالب بالرغبة في الحفاظ على هذه القيم، والاعتزاز بالدعوة إليها والدفاع عنها. ويتضمن المنهج إدانة لجميع الأديان المخالفة للإسلام والقول بأنها أديان باطلة وأصحابها كفار. وما يعنيه ذلك من تشكيل وعي عدائي تجاه الآخر، المخالف للدين الإسلامي، وتربية النشء على عدم قبوله وتكفيره، وبالتالي، استباحة دمه. وعمَد من خلال مناهجه الدراسية إلى تربية تلاميذه على الأولويات والمعتقدات الخاصة بالتنظيم  أي النظرة التشاؤمية المروعة للعالم، والتشديد على إعادة بناء الخلافة وتأسيس دولة إسلامية، وإنشاء «جيل جهادي» مؤمن بوحدة العائلة الإسلامية السليمة. كما أسس التنظيم لجيل اعتاد رؤية أنواع السلاح كافة، وآمن بمبادئ الاستشهاد والجهاد. إذا كان أطفال المناطق التي استولى عليها تنظيم الدولة ملزمين  طوعا أوكرها، بالالتحاق بمدارس التنظيم والتعلم وفق مناهجه، فقد استغل التنظيم هذا الفضاء التعليمي  واستقطابهم وإخضاعهم لدورات شرعية وتدريبات أولية، وتكليفهم بمهمات مختلفة يتم من خلالها اكتشاف قدراتهم، ليتم إخضاعهم، بعد ذلك، لتدريبات مكثفة جسدية ونفسية تتضمن قدرا كبيرا من الوحشية. خلال هذه التدريبات غزل الأطفال عن أسرهم، وأرغموا على ارتداء زي موحد، وتم تعميق الالتزام داخلهم بقيم الولاء والتضحية والتضامن الذي ينتج من المشقة المشتركة التي يواجهونها. بعد هذا الاختبار تأتي مرحلة التخصص، حيث يسعى أعضاء التنظيم إلى تعزيز الخبرات التي اكتسبت خلال مرحلة التدريب، وأخضع الأطفال لمزيد من التدريبات المتخصّصة. بعد ذلك تأتي مرحلة التعيين، حيث عين كل طفل في الدور الملائم له. بعد كل هذه التدريبات والاختبارات، يختار بعض الأطفال المتميزين للمشاركة في المناسبات العامة، والهدف من ذلك الرغبة في التأثير واستقطاب أطفال جدد. أما باقي الأطفال فيوظف بعضهم في مهمات تهريب وتجسّس، وتم توريط آخرين بمهمات قتالية، تحولوا معها إلى قنابل بريئة قابلة للانفجار متى ما طلب منهم ذلك. وصلت ظاهرة تجنيد الأطفال داخل التنظيمات الإرهابية المختلفة إلى مرحلة «الكارثة الإنسانية» بعدما باتت، هذه التنظيمات، تتنافس على تجنيد أكبر عدد من الأطفال   وتوظيفهم عسكريا كأدرع بشرية، وتحويلهم فكريا إلى قنابل مدمرة قادرة على أن تقود حربا متطرفة، في المستقبل، يدفع ثمنها أجيال بالكامل. فإذا كانت ظاهرة تجنيد الأطفال واستغلالهم قد بقيت لوقت طويل ظاهرة خفية، تحاول التنظيمات المتطرفة نفيها أو تكذيبها وربما تبريرها على استحياء، إلا أن الحرب في سورية أبرزت الوجه القبيح لهذه الظاهرة بعدما بات توظيف الأطفال واستغلالهم عسكريًا يوثق صوتا وصورة، وباتت جثت الأطفال، ضحايا هذا الاستغلال، تغطي الأخبار الدولية والتقارير الحقوقية. والأسوأ أن الطريق الذي سلكه هؤلاء الأطفال ليصبحوا جلادين قد بدأ فعلا في المدرسة ومن داخل الفصل الدراسي. فكل المقررات التعليمية التي ابتدعها التنظيم تؤدي إلى «صناعة مقاتل» ليس إلا. عکس باقي التنظيمات الإرهابية، جهر تنظيم «الدولة الإسلامية» باستغلاله للأطفال وتوظيفهم في عملياته القتالية وافتخر بتجنيده لهم، بل دفع نحو ظهورهم العلني تسجيلات مرئية وهم يتوعدون العالم بحرب طويلة الأمد، ونقل صورهم وهم ينفذون أحكام الإعدام بدم بارد وولاء تام لـ الخليفة. تضاعف استخدام التنظيم للأطفال بعد توالي هزائمه في سورية والعراق وخسارته لمقاتليه، وهو ما دفعه إلى الاستعانة أكثر بأشباله  وهذا ما أكَّده التقرير السنوي لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة. هناك فئة عريضة من الأطفال تم تدجينهم بأفكار في غاية التشدد والدموية، ودربوا على التجسس والهروب من المراقبة وحمل السلاح. لقد هيئ ما يطلق عليه «أشبال الخلافة» ليكونوا مقاتلي المستقبل، حتى بعد خسارة التنظيم لأراضيه سواء في سورية أو العراق، وهو ما قد يضع العالم في مأزق كبير إذا لم يحسن التعاطي مع هؤلاء الأطفال المقاتلين ورعايتهم النفسية وتصحيح أفكارهم كمحاولة لا غنى عنها من أجل إعادة إدماجهم مع مجتمعاتهم الأصلية.

يهدف تنظيم الدولة، كباقي التنظيمات الإرهابية، إلى استغلال وتجنيدهم لأسباب متعددة منها على وجه الخصوص ضمان تضاعف أعدادة وضمان إستمراريته أو سد النقص في عدد مقاتليه، بحيث يتم إعداد الأطفال، في هذه الحالة، كبدائل للاستعانة بها وقت اللزوم. لهذه الأسباب عمل التنظيم على إعداد أجيال جديدة من المقاتلين الذين نشأوا في كنفه ويدينون له بالولاء. كما أن التنظيم لا يجد صعوبة كبيرة في إقناعهم. فمحاولات إغراء بسيطة تكفي لانضمامهم، وبخاصة إذا تم إيهامهم أنهم أبطال التنظيم وأسوده أو تم استغلال ظروف الحياة القاسية والظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرون بها والتي يريدون الفرار منها، إذ يعتقدون أنهم بسلوكهم هذا الطريق سيتمكنون من توفير الأموال اللازمة لهم ولأسرهم.

إن اهتمام التنظيم بالأطفال جاء بسبب اقتناعه بأنهم هم سلاح المستقبل الفتاك الذي يصعب تفكيكه وهم الأداة الفعالة لتعميق جذور العنف وأيديولوجياه المتوحشة. فـ «أشبال الخلافة» هم إرث التنظيم الهيكلي وامتداده الفكري، فإن انتهى التنظيم عسكريا، فإن فكره الذي غرسه في أطفاله سيبقى حيا ويكبر وينمو مع نموهم، حتى يصبح وحشا قادرًا على إعادة صناعة جسد متطرف جديد، يعتمد في أيديولوجياه على الأفكار التي غرست فيه منذ الطفولة التي تحولت إلى قناعات يصعب تغييرها ما لم يستفد هذا الطفل من فرصة جديدة لتصحيح أفكاره ومعتقداته المغلوطة، وما لم يستفد أيضا من علاج نفسي لإفراغه من كل تأثيرات مرحلة التلقين والتجنيد ومن ثم إعادة دمجه داخل مجتمعه. وهذا هو الامتحان الحقيقي الذي لا مفر منه والذي سيضع العالم على كفتي ميزان اختيار أي كفة سيحدد مسار الأخرى وتداعياتها.

لقد راهن التنظيم على تحويل هؤلاء الأبرياء إلى مقاتلين مدربين على مستوى رفيع في المستقبل  وخصوصا أن حداثة سنهم، ونقاء فكرهم وقلة نضجهم، تعطي قادة التنظيم فرصة ذهبية لتنشئتهم على معتقداته الدينية وتصوراته الفكرية المتشددة ورؤيته الرافضة للآخر.

حاول التنظيم من خلال ما عرضه من صور وتسجيلات مرئية لأطفال وهم يحملون أسلحة من مختلف الأنواع، والهدف أن يوصل صورة حية للعالم أجمع يقول فيها إنه، كتنظيم، متجذر في الأرض التي يسيطر عليها، وإنه دولة كاملة العناصر والأركان، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى.كان التنظيم يهدف، من خلال توظيف صورة الأطفال، إلى خلق رأي عام متعاطف مع التنظيم وإلى جذب عناصر جديدة أثرت فيها أطروحاته وادعاءاته. فدعاية تنظيم الدولة أتقنت الرقص على الحبلين، واستطاعت أن تصف الأحداث بما يخدم أجندتها وخطتها الإعلامية في استغلال وجود الأطفال في صفوفه أسوأ استغلال تارة، والتأثير وإحراج أعدائه تارة أخرى. من ضمن الأسباب التي دفعت تنظيم الدولة أيضا إلى تجنيد الأطفال، ربط أسرهم بالتنظيم وإخضاعهم له. في هذه الحالة يكون الأطفال كرهائن في يد التنظيم لضمان ولاء
أهاليهم له، فإن هم تمردوا فهذا يعني تعريض حياة أبنائهم للخطر. ويمكن إستغلالهم في إقناعهم بالعمليات الانتحارية عبرالثأثير في عقولهم.

و من أجل إضفاء الشرعية على تجنيد الأطفال في الأعمال القتالية، لجأ تنظيم الدولة إلى إطلاق فتاوى دينية تبيح تجنيد الأطفال. وقد أوضح المؤشر العالمي للفتوى الصادر عن دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن التنظيم دأب على الاستغلال السياسي للفتوى لتجنيد الشبيبة والأطفال داخل صفوفه، حيث أصدر التنظيم عدة فتاوى طوعها لجهاد الصغار، مبيحا استخدامهم في تنفيذ عمليات انتحارية بعد «تفخيخ اجسادهم بالقنابل. ولتشجيع تجنيد الأطفال منذ سن مبكرة، أصدر تنظيم الدولة، أيضاً، عبر المواقع الجهادية التابعة له، دليلاً إرشاديا عنوانه دور الأخت في الجهاد يشرح للأمهات «الجهاديات» كيفية تنشئة أطفالهن. ويوصي الدليل بتحويل التدريب إلى «متعة ومرح» للصغار مفسرا أن «المتعة لا تعني ممارسة الرقص والموسيقى، مثلما تصورها برامج الأطفال الغربية. ووفق الدليل نفسه، ينبغي منع الصغار من مشاهدة التلفزيون تماما، لأنه يعلم في أغلب الوقت المجون والفوضى وممارسة العنف العشوائي. وينبغي أن يشارك الأطفال في ألعاب رياضية مثل الرماية لتحسين قدرتهم على التصويب، وممارسة التزلج من أجل تحسين لياقتهم البدنية، والمشاركة في المعسكرات من أجل تعليمهم الصمود في العراء. وطبقا للدليل، فإنه ينبغي عليهم ممارسة إطلاق النار على أهداف بمسدسات لعبة للمساعدة على توجيه غضبهم، رغم أنه ينبغي على الوالدين «أن يوضحوا لهم من يكون هدفهم، ومن لا ينبغي أن يكون هدفهم». بهذه الطريقة تمكن تنظيم الدولة من زرع بذور التطرف في نفوس الأطفال، منذ مراحلهم العمرية الأولى، من خلال إقناع الأهل على قبول فكرة التجنيد وأن يكون الطفل جزءا من منظومة عامة مهيأة لخدمة أجندة التنظيم اعتمادا على نص ديني ملتبس، وفتاوى مغرضة، وأدلة توضيحية لما يجب أن تتم عليه مرحلة التخدير وتحضير الأطفال لما هو قادم.

وداخل هذه المدارس يتم اختيار وإرسال الأطفال الذين يظهرون ميلاً مبكرا ليكونوا «أشبالا» إلى معسكرات التدريب التي أطلق عليها «أشبال الخلافة»، ومن خلال عملية الانتقاء هذه يوحي التنظيم بأن ولوج هذه المعسكرات ميزة نادرة، يتوجب على الأطفال التنافس من أجلها، وأنه شيء يرغب فيه كل طفل. بالنسبة إلى الأطفال الأجانب الذين وصلوا إلى سورية مع أهاليهم سواء من أوروبا أو أمريكا أو الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، فبمجرد وصولهم إلى «أرض الخلافة»، يسجلون في إحدى المدارس الدينية التابعة للتنظيم، التي خصص اثنان منها للمتحدثين باللغة الإنكليزية. وهدف التنظيم من ذلك هو الاستثمار في الطفولة وتحويل الأطفال من مجرد عابرين من محطة سورية، إلى متطرفين مبرمجين وربما مقاتلين مختصين بالكامل. استعان تنظيم «الدولة الإسلامية» بالتطبيقات التي صممها خصيصا من أجل استمالة عقول الأطفال واستدراجهم من باب بحثهم عن التسلية والاستكشاف والانبهار بنماذج البطولة الوهمية والقتال وأنواع الأسلحة. كما استغل التنظيم، أيضا، حب الأطفال للرسم والألوان ليستبدل بالشموس الضاحكة وأشكال الطيور والحيوانات رسم الدبابات والجثث والأسلحة. وعمل التنظيم على إدخال عدد من التحديثات لتطبيقات الألعاب الحربية التي طورها، من خلال وضع صور لأهداف حية مثل تمثال الحرية في نيويورك وبرج إيفل في باريس، وعلى الأطفال الهجوم عليها مقابل مكافأة لنجاحهم في الحصول على عدة نقاط أثناء اللعب. ومن ضمن الطرائق التي لجأ إليها التنظيم، لتجنيد الأطفال هناك الضغط على الأهالي من خلال تجويعهم وتشديد الحصار عليهم وإجبارهم على إرسال أطفالهم مقابل المال والطعام  كما استخدم التنظيم أسلوب التغرير بالأطفال عبر تقديم لعب مجانية وحلوى لمجرد التظاهر مع مقاتلي التنظيم أو الوقوف في استقبالهم. ليتم استقطابهم بعد ذلك في مخيمات ذات شكل دعوي، يتم داخلها كذلك، توزيع الهدايا وبعض المنح والمخصصات المالية المحدودة. وفي هذا الصدد، أفادت تصريحات بعض المراهقين، من العراق، أنه كانت تقام الحفلات سرا لتوزيع الهدايا على الأطفال في المهرجانات والمسابقات لكسر الحاجز النفسي، والسماح للأطفال باستخدام أسلحة المقاتلين واللعب بها ليألفوها ولكي ينطبع في أذهانهم أن حمل السلاح يمثل البطولة والفدائية التي ينبغي عليهم العمل لتحقيقها في أنفسهم مستقبلاً. وقد استغل تنظيم الدولة الإسلامية الوضع المعيشي الصعب للعائلات التي كانت تعاني قهر الحياة من بطالة وفقر، بينما كان أطفالهم يمتهنون التسول أو العمل في بعض الورش المهنية، فاضطر الكثير من الأهالي إلى إرسال أبنائهم إلى التنظيم سواء برضاهم أو بالإكراه، هذا دون الأطفال الذين لجأ التنظيم إلى اختطافهم من أهاليهم أو من الملاجئ ودور الأيتام. مثلما تم استخدام شبكة الإنترنت من أجل استقطاب شباب ونساء من كل أنحاء العالم فقد تم استخدام هذه الوسيلة من أجل استقطاب الأطفال الدين يعدون الأكثر عرضة لخطر التنظيمات المتطرفة والإرهابية، بسبب تعاطيهم الكبير للإنترنت. وقد استغل تنظيم الدولة هذا الفضاء المفتوح من أجل بث خطاباته وسمومه بلغات مختلفة ومن خلال رسائل مختلفة تلائم فئات محددة من الجمهور.

فقد تم استخدام نهوج مختلفة تلائم الفئات المستهدفة من الأطفال. ويستند أحد هذه الأساليب، ويعرف بـ «الاستمالة»، إلى علم المنفذ لعملية الاستقطاب باهتمامات الشخص من أجل تكييف النهج وبناء علاقة قائمة على الثقة بين المرسل والمتلقى. وثمة أسلوب ثان يركز على «الإعلان الموجه»: فمن طريق تتبع سلوك مستخدمي الإنترنت، يمكن للجماعة تحديد الفئات المعرضة لدعايتها وتعديل المضمون بما يناسب الجمهور المستهدف.

فقد منح تنظيم الدولة للأطفال الذين تم استقطابهم، برضاهم ورضا عائلتهم أو أولئك الذين أرغموا أو اختطفوا من أهاليهم، والذين لمس فيهم ميلا إلى أن يكونوا «أشبالا»، إحساسا بالتميز بين أقرانهم من الأطفال من خلال حمل السلاح وارتداء الزي العسكري، وما يمكن أن يعكسه مثل هذا التمييز في نفسية الطفل وما يمكن أن يشعر به من قوة وهمية تجعله يتشبث باللعبة وتجعله أكثر ارتباطا وموالاة للجلاد لقد استطاعت صورة هؤلاء الأطفال بزيهم العسكري وإحساسهم بالعنفوان، الظاهر على تعبيرات وجوههم، أن تؤثر في أطفال آخرين انتابتهم الرغبة في الشعور بالتميز نفسه. وقد سمح التنظيم للأطفال بمصاحبة قياداته في بعض المهمات، وجعلهم يحملون السلاح، وينفذون عمليات الإعدام أو رجم النساء وسمحوا لهم بحضور طقوس قطع الرؤوس. لم تقتصر العمليات الإرهابية على أطفال التنظيم الذين يوجدون في المناطق الخاضعة لسيطرته فحسب، بل شملت أيضا أطفالاً في أوروبا ممن اعتنقوا فكر التنظيم، إما تأثرا بما يطرحه عبر ماكينته الإعلامية، وإما بسبب انتماء عائلاتهم إلى هذا التنظيم دون الالتحاق فعليا بدولة الخلافة المزعومة. وحاول هؤلاء الأطفال تنفيذ عدد من الهجمات الانتحارية.

راهن تنظيم «الدولة الإسلامية» على الأطفال بوصفهم، أيضا، أداته البريئة التي يستخدمها في عملياته الدنيئة لإثبات قوة تأثيره في مكونات المجتمع كافة، وإظهار خطره على الأجيال القادمة. فبعدما نجح التنظيم في إعداد الأطفال على مناهجه التعليمية، نجح أيضا في تجنيدهم لخدمة استراتيجيته المتوحشة فبعدما نجح في صناعة أطفال مسلحين وذوي كفاءة قتالية عالية، مؤمنين بمبادئ التنظيم وملتزمين بكل تعاليمه ومستعدين للموت من أجله.

فرفعت اليونيسيف درجة خطورة هذا الأمر في سورية والعراق إلى الحد الأقصى نتيجة وحشية تنظيم الدولة في تلطيخ البراءة بالدم واستخدام الأطفال دون 13 سنة كمخبرين وحراس مواقع استراتيجية، وما دون 15 سنة للمشاركة في عملیات انتحارية وتنفيذ الإعدام على آخرين.

فتح تنظيم الدولة مكاتب أطلق عليها «الفاروق للأشبال» و«أشبال الخلافة» في عدد من المناطق السورية. كما خصص أربعة معسكرات في مدينة الموصل العراقية لتدريب الأطفال قتاليا. واضطلعت هذه المكاتب كما سبق ذكره، بمهمات تجنيد الأطفال، حيث عملت على استقبال الساعين للانضمام إلى صفوف التنظيم، واستقطاب الأطفال القاطنين قرب مقار التنظيم أو الذين يرتادون المدارس والمساجد في مناطق سيطرته، وكذلك استقبال الأطفال الراغبين في الانضمام من دون موافقة أولياء أمورهم، أو أولئك الذين أجبروا على الالتحاق بالتنظيم. ولعب التنظيم على الجانب النفسي للطفل، بحيث ولد لديه شعورا بالتميز والفخر والهيبة، والمنافسة لمجرد التحاقه بـ «نادي الأشبال». وأعد الأطفال الأصغر سنًا في البداية كجواسيس وتم تشجيعهم على مراقبة والاطلاع على أفراد الأسرة أو الجيران الذين ينتقدون التنظيم أو يقومون بانتهاك أحد قوانين الشريعة. وقد أقنع هؤلاء الأطفال أن من يقوم منهم بعمل جيد فسوف يتم إلحاقه بمعسكر. فتدريب الأشبال. وأمام براءة الأطفال وحسن نيتهم وعدم معرفتهم ببواطن ما يقومون به، فقد سهل إقناع الكثيرين منهم بالتجسس على أهاليهم لمجرد الرغبة في ولوج حياة لم يعرفوها إلا من خلال الألعاب التي كانوا يلعبونها أو من خلال روايات أصدقائهم الذين «حالفهم الحظ» وتمكنوا من الالتحاق بمعسكرات التدريب. إن تنظيم الدولة لم يحترم براءة الأطفال وقلة وعيهم بما يرتكب باسمهم ومن خلالهم من جرائم إرهابية ترفضها كل الأديان والمواثيق. فدور الأطفال داخل التنظيم لا يقتصر فقط على استغلالهم كمحاور مركزية في الدعاية للتنظيم، أو إنجاز بعض المهمات المتخصصة، إذ تورط الأطفال في كل جزء من الصراع، كالحراسة الشخصية أو في نقاط التفتيش، أو استخدامهم كمجندين لأطفال آخرين أو كواعظين ومنفذين لعمليات إعدام، أو حتى كانتحاريين، إنما دورهم الأساسي يكمن في كونهم حملة فكر التنظيم ومستقبله المظلم الذي إذا ما انتهى التنظيم على الأرض، فسيظل هؤلاء الأطفال إرثه الذي يحفظ أيديولوجياه ويؤمن بها، وتدرب على الدفاع عنها والانتقام ممن أراد محاربتها والقضاء عليها. فتنظيم الدولة الذي كان صاخبا في استخدام أشباله وكان فخورا بذلك ويتباهى به أمام العالم، راهن على الأطفال بوصفهم مفتاح المستقبل، وأنهم الجنود الأنقى والأفضل لحمل المشعل بعدما شبعهم بعقيدة التنظيم المتطرفة. وورّطهم في مختلف أنواع الجرائم وعمليات القتل والترويع. هم القنابل الموقوتة التي لم يتم تفكيكها بعناية ومسح كل ما برمج في عقلها من عنف ودموية وأفكار دينية مغلوطة وإعادة دمجها داخل المجتمع فسوف تنفجر في وجه العالم، وستكون أشد فتكا ممن صنعها وأكثر وحشية من كل ما سبق. ومن أهم الأسئلة التي تقض مضجع تقض مضجع العالم بأسره. وبات السؤال الحارق الذي يطرح نفسه: هل هؤلاء الأطفال مجرمون أم ضحايا؟ كيف سيتعامل معهم العالم؟ ما مستقبل من سجن. منهم أو وضع في مخيمات للاجئين؟ وكيف سيتم التعامل مع أولئك الذين نجحوا في الهروب من سورية والعراق ويرغبون الآن في العودة إلى بلدانهم، هل ستقبل أوطانهم استعادتهم؟ وما البرامج القادرة على إعادة تأهيلهم وإدماجهم داخل مجتمعاتهم؟ إن التحدي الحقيقي الذي يطرحه أطفال الخلافة وأشبالها هو كيفية إنقاذهم من براثن التطرف والعنف الذي غرس فيهم، وضمان مستقبل يلعبون فيه بدلاً من أن يقتتلوا ومدارس يتعلمون فيها وفقا لمناهج تعليمية تتمشى وأعمارهم وتصحح كل ما تم من حشوهم به من أفكار ومعتقدات مغلوطة، ومجتمعات واعية ومتسامحة يندمجون داخلها وتحتويهم، بدلاً من الانعزال خارجها سواء في مخيمات للاجئين في سجون للأحداث، أو يقضون حياتهم هاربين وخائفين، وما يمكن أن يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة.

يعد «الأطفال الجنود ضحايا». وعلى هذا النحو، ينبغي على بلدانهم ضمان المعاملة الجسدية والنفسية المناسبة لتسهيل إعادة الإدماج التدريجي مرة أخرى في المجتمع. ومن بين الالتزامات العشرين لالتزامات باريس، التي تهدف إلى حماية الأطفال من التجنيد أو الاستخدام غير القانوني من جانب القوات والجماعات المسلحة ، يبرز على وجه الخصوص الالتزام الرقم(11)  الذي ينص على: «التأكد من أن الأطفال دون سن 18 سنة ممن تم أو يتم تجنيدهم بصورة غير مشروعة، أو استغلالهم بواسطة قوات. أو مجموعات مسلحة، والذين يتهمون بارتكاب جرائم ضد القانون الدولي سوف يعدون ضحايا للعنف وخروقات القانون الدولي وليس متهمين بارتكاب الجرائم. ويجب معاملتهم وفقا للمعايير الدولية الخاصة بقضاء الأحداث، كأن يكون في إطار العدالة التقويمية وإعادة التأهيل الاجتماعي. نجحت دعاية تنظيم الدولة، بخصوص أشباله في تحقيق أهدافها، إذ يبدو أن الكثير من الدول والمجتمعات، غربية وعربية يفضلون ألا يعود «أشبال الخلافة» أو «أطفال داعش» إلى أوطانهم على الإطلاق. وهذا ما عبّر عنه هانز جورج ماسن، مدير الأمن الداخلي في ألمانيا، في أحد تصريحاته بالقول: «علينا أن نحسب أن هؤلاء الأطفال يمكن أن يكونوا قنابل موقوتة». وفي استطلاع للرأي في فرنسا حول عودة الأطفال الفرنسيين، جاءت النتائج أن 67 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع يرفضون عودة «الجهاديين الأطفال» ويفضلون أن تتركهم الحكومة الفرنسية للعدالة العراقية، وهي تتولى مسألة محاكمتهم وسجنهم في العراق. ويرى الكثير من الأشخاص أنه يجب ألا تعاني مجتمعات بأكملها بسبب أخطاء الآباء غير المسؤولين. وطالب الكثير من الرافضين لفكرة عودة الأطفال بإنشاء سجون خاصة لهم، تشبه «غوانتانامو للأشبال». غير أن التجربة تقول إن السجون ليست هي الحل السديد، فطالما تحولت سجون ومعتقلات إلى حواضن للأفكار المتطرفة، وفضاء لتفريخ المزيد من المتشددين ومشاريع إرهابيين. ويجب عدم إدانة الأطفال المقاتلين دون الخامسة عشرة الذين اعتقلوا لمجرد أنهم حملوا السلاح، بحسبانهم يتحملون مسؤولية نتيجة تورطهم في الأعمال العدائية، وتقع المسؤولية كاملة في هذه الحالة على عاتق الطرف المشارك في النزاع الذي جنّد هؤلاء الأطفال. في الوقت الحالي، يعيش معظم أطفال تنظيم الدولة من الأجانب بسورية في مخيمات اللاجئين. الكثير من الحكومات رفضت استعادة أبنائها، وتفضيل تركهم في سورية والعراق يواجهون المجهول حيث الحياة الصعبة والمستقبل الغامض.

يبقى السؤال، هنا أيضا، هل سيتم احتجاز الأطفال الأجانب، تحديدا، داخل السجون العراقية، أم سينقلون إلى دولهم الأصلية لمحاكمتهم وحبسهم وإعادة إدماجهم من داخل السجون، أولا، ثم داخل مجتمعاتهم  بعد استيفاء المدة القانونية التي تراعي سنهم ومدى تورطهم في أعمال عنف؟ ولعل الرد على هذا السؤال يبقى أيضا من الصعوبة بمكان، في ظل الموقف الدولي الرافض لعودة المقاتلين بمن فيهم الأطفال، حيث الكثير من الدول التي ترى في هؤلاء الأطفال تهديدا أمنيا مستقبلياً، فهؤلاء الأطفال أو جزء كبير منهم على الأقل يتمتع بمعرفة لا مثيل لها بمجتمع التنظيم، يمكنها أن تثري التدابير المضادة له. والأهم من ذلك  يمكن، من خلال إعادة دمجهم، إبطال مخططات التنظيم المستقبلية، وتجريده من البذور التي زرعها للحفاظ على أجيال متطرفة قادرة على استكمال مشروعه. والأهم من ذلك، يمكن، من خلال إعادة دمجهم إبطال مخططات التنظيم المستقبلية، وتجريده من البذور التي زرعها للحفاظ على أجيال متطرفة قادرة على استكمال مشروعه. حيث تؤدي العائلة دورا إيجابيا في المساعدة على التخلص من التطرف وتساعد على إعادة إدماج الطفل داخل المجتمع، لكن في حالة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وبخاصة في ما يتعلق بالأطفال من سورية والعراق، فيضاف إلى الصعوبات التي تواجه عمليات إعادة التأهيل، إمكان تورط عائلات هؤلاء الأطفال مع التنظيم أو اعتناقهم لفكره المتشدد، ما يجعل فكرة الخروج من التطرف صعبة. كما أن الحساسيات القبلية والقومية والدينية في المنطقة، بين ثنائيات «شيعة . سنة»، «عرب . أكراد» يمكن أن تكون عامل جذب لإعادة انخراط أولئك الأطفال في أعمال عنيفة، الأمر الذي يجعل برامج إعادة التأهيل بحاجة إلى مراعاة هذه المعطيات كاملة حتى تكون أكثر فاعلية. فالعداء العلني تجاه الأطفال العائدين، لا يعني أن المجتمع مستعد للمساعدة في تحسين أوضاعهم، وهو ما يهدد بإصابة هؤلاء الأطفال بالصدمة من جديد. إحساس الرفض داخل المجتمعات، يمكن أن يدفع هؤلاء الأطفال مستقبلاً إلى أحضان التنظيمات التي ستبقى مفتوحة لهم على الدوام. ولمنع هذا الخطر المحدق، يجب النظر إلى برامج إعادة التأهيل على أنها عملية مجتمعية يجب أن يقبلها المجتمع وينخرط فيها أيضا؛ فهؤلاء الأطفال بالتأكيد ليسوا قضية خاسرة، وبخاصة أن العقول الصغيرة تكون مجهزة بصورة فريدة للارتداد من الأفكار الفاسدة عندما تهيأ لها البيئة المناسبة. علاوة على ذلك، فهؤلاء الأطفال لديهم معرفة بالحياة اليومية في تنظيم الدولة، وهي معرفة ليس لها نظير ويمكن أن تساعد على تطوير فهم العالم للتنظيم، وما يمكن أن يتولد منه مستقبلاً. هؤلاء الأطفال هم في أشد الحاجة إلى الاحتواء والتأهيل النفسي وإعادة الإدماج داخل مجتمعاتهم، بدلاً من تركهم للمجهول المظلم سواء في سورية أو العراق، وبخاصة إذا ما علمنا أن تجنيد الأطفال في النّزاعات المسلحة أو داخل الجماعات الإرهابية قد يتسبب في تأثيرات مدمرة على نفسية الطفل خلال مرحلة الطفولة والنمو. في هذه الحالة، يكبر الطفل على ما نشأ عليه من أفكار متطرفة وعنف وعدوان، وتستبدل القيم والمفاهيم. الإيجابية التي من المفروض أن تبني شخصية الطفل، بأخرى هدامة. هنا، تصبح الجريمة «جهادا»، والسرقة «غنيمة»، والوطن «جماعة/ تنظيما»، ويصبح الدين «تكفيرا»، والقتل «استشهادا». هذا إضافة إلى جميع القيم الثقافية والأخلاقية والوطنية والحضارية التشوه النفسي والاجتماعي والجسدي الذي ينجم عن معايشة الحروب أو المشاركة فيها، فيفرغ الطفل من جميع القيم الثافية والأخلاقية والوطنية والحضارية التي من المفروض أن تكون هي عموده الفقري والنواة الصلبة لكل تربية صحيحة

فالخاسر الأكبر سيكون المجتمع الذي سيغوص في مستنقع من التطرف الفكري والفكر الانتقامي، إذا لم يتم استعادة هؤلاء الأطفال، واحتواؤهم، ومعالجتهم وتأهيلهم ليتخلّصوا من كل ما تعرضوا له من ظروف معيشية صعبة في المخيمات. وإذا لم يتم الاعتناء بهم والسيطرة عليهم ومصالحتهم مع حاضرهم ومستقبلهم من خلال إعادة إدماجهم داخل مجتمعاتهم. من هنا، لا بد أن تتحمل كل دولة مسؤوليتها الأخلاقية والإنسانية والقانونية تجاه مواطنيها، وأن تسعى لاستعادتهم وإخضاعهم لبرامج تأهيل تتجاوز في محتواها البرامج التقليدية، ذات الأبعاد النفسية والتعليمية العامة. يمكن أن تصنّف هذه المجموعات إلى أربع: المجموعة الأولى، تتألف الأطفال الذين ولدوا من من مقاتلين أجانب داخل تنظيم الدولة، وهم يمثلون الخطر الأقل بحكم صغر سنهم وعدم تشبعهم بالفكر العنيف. في الغالب هؤلاء الأطفال لا يملكون أوراقا ثبوتية تثبت جنسياتهم ولا حتى أسماء آبائهم الحقيقية ما دام الزواج داخل تنظيم الدولة كان يتم عبر محاكمه الشرعية وبألقاب المقاتلين وليس بأسمائهم الحقيقية. هؤلاء الأطفال يحتاجون، بداية، إلى اعتراف بحقهم في الانتماء إلى وطن وإلى هوية. وهذا هو التحدي الأول، بعدها تأتي مسألة إخضاعهم لرعاية وعلاج نفسي لمحوكل مشاهد العنف والقتل والمعاناة التي تعرضوا لها سواء داخل التنظيم أو داخل المخيمات. المجموعة الثانية، تتألف من الأطفال الذين ساقهم حظهم العثر إلى أحضان التنظيم، بعدما سحبهم أبواهم، أو أحدهما، معهم في رحلة «الهجرة» إلى «دولة الخلافة». هؤلاء الأطفال ترعرعوا في «أرض الخلافة» لكن من دون أن يلتحقوا بمدارسها أو معسكراتها التدريبية. هؤلاء يحتاجون إلى رعاية نفسية وصحية أكبر، وبرامج إعادة التأهيل تراعي ما تعرضوا له وما عاشوه من تقلبات المجموعة الثالثة، تتألف من الأطفال الذين تعلّموا وفق مناهج التنظيم التعليمية وتشبعوا بأفكاره ومعتقداته وصاروا حملة الفكر الذين راهن عليهم التنظيم لضمان استمرار أيديولوجياه وفكره المتطرف. إنهم يحملون أفكارًا ومعتقدات قادرة على أن تحولهم إلى إرهابيين في المستقبل إذا لم يتم تفكيك تلك الأفكار والمعتقدات ونقضها بداخلهم وتغييرها بأفكار أكثر اعتدالاً.

المجموعة الرابعة، تتألف من «أشبال الخلافة» الذين خضعوا لتدريبات التنظيم القتالية، وتطبعوا مع العنف وتحولوا إلى مشاريع إرهابية. هؤلاء الأطفال ربما ارتكبوا الكثير من الجرائم، وربما لا يزالون مستعدين لارتكاب المزيد، وهم فقط في انتظار فرصة للانتقام ممن حارب دولتهم المزعومة، وقتل أو أسر أميرهم أو أحد أفراد عائلاتهم، أو أصدقائهم ومعارفهم. هؤلاء الأطفال هم الخطر الحقيقي الذي يجب التعامل معهم بالكثير من الرعاية والحيطة والحذر، في الوقت نفسه. لا بد من إخضاعهم للقوانين المعتمدة داخل دولهم الأصلية من دون إغفال ضرورة إعادة تأهيلهم وإدماجهم بعد انتهاء العقوبة التي يحددها القانون. فكرة ترك أولئك الأطفال ليسجنوا في العراق، وفق أنظمته القانونية والقضائية، جريمة أخرى تُرتكب في حق هؤلاء الأطفال، ومشروع إرهابي جديد يتم التأسيس له داخل السجون العراقية التي ستكون النواة الأولى، بينما ستظهر النتائج بعد قضاء أول فوج مدة محکوميته، بحيث لن نستبعد ظهور تنظيم «داعش» جديد لكن أكثر شراسة من كل ما سبق. إن استعادة الدول لأطفالها، يبدو الحل الأقل تكلفة لتلك الدول وللعالم ككل. وإعادة تأهيل وإدماج هؤلاء الأطفال هو الخيار الأنسب لتجاوز هذه الأزمة العالمية. لا بدّ من الإقرار بكون التجارب التي عاشها أولئك الأطفال والصور المحزنة في ذاكرتهم والمعتقدات التي غرست في عقولهم، إضافة إلى الحالة المزدوجة التي يحملها المتورطون بينهم في العنف بوصفهم أطفالاً معتدين وضحايا، وما تعرضوا له من تطبع مع العنف، يمكن أن يجعل عودتهم إليه أمرًا واردا، حتى على المدى البعيد. فرغم كل البرامج التي يمكن أن يستفيدوا منها، وهو ما يتطلب من المؤسسات الأمنية والمنظمات والجمعيات التي تشرف على برامج إعادة التأهيل، إطلاق آليات مراقبة دائمة وإشراف مستمر للاطلاع على النتائج بصفة دورية يتم التأكد النهائي من تفريغ الجسم والعقل من كل الأفكار المتشددة.

إذا كانت مناهج التعليم التي خضع لها «أطفال داعش» وغسل الدماغ الذي تعرضوا له وحشوهم بأفكار متشددة ومحاولة تطبيعهم من العنف قد خلقت حالة من الصدمة لكل العالم، وإذا كانت صور الأشبال وهم ينفذون عمليات الإعدام ويمثلون بالجثث أو ينفذون هجمات انتحارية أو ينخرطون في القتال قد أفزعت مجتمعاتهم، فيجب الاعتراف بأن التقاعس في ترك الأطفال دون مسار واضح للأمام، يعد أسوأ السيناريوهات الممكنة، إذا كان الهدف هو التخفيف من «التهديدات» الأمنية. من الممكن لهؤلاء الأطفال أن يعيشوا حياة طبيعية مثل باقى الأطفال، ويمكن أن يندمجوا داخل المجتمع وأن يتخلصوا من كل رواسب تجاربهم السابقة. فهم بحاجة إلى الخروج من الدائرة المظلمة التي وضعوا فيها، وهم بحاجة إلى أن تتقبلهم أسرهم ويتقبلهم المجتمع والعالم ككل، فأي عملية إعادة تأهيل وإدماج لا تنخرط فيها العائلة ولا يسهم فيها المجتمع، ستبوء بالفشل وستكون التداعيات كارثية، وهذا ما لا نتمناه. هؤلاء الأطفال هم اليوم أمانة لدى المجتمع الدولي ولدى المجتمعات المحلية، وهؤلاء هم من سيحدد مستقبلهم ومصير حياتهم.

وختاماً

 

يتبيَّن من خلال فصول هذا الكتاب، أن أسبابَ التحاق آلاف الشباب والنساء والأطفال العربي والغربي بتنظيم «الدولة الإسلامية»، واعتناقهم فكره المتطرف، كثيرةٌ ومعقَّدةٌ، يتداخل فيها، من ناحية، ما هو جرح تاريخي بما هو صراع سياسي وتنافس اقتصادي. ومن ناحية أخرى، ما هو عامل اجتماعي وتربوي بما هو خلل في التنشئة وإحساس بالظلم والرغبة في الانتقام. ويتداخل فيها، من ناحية ثالثة، ما هو رغبة في تحقيق الذات وسد حاجاتها، بما هو حاجة إلى إحساس بالهوية والانتماء. أسباب متعددة معقدة ومتداخلة، يصعب حصرها في إطار أو قالب واحد، لكنها أدت جميعها، في النهاية، إلى بزوغ ظاهرة إرهابية صدمت العالم بتنوع عنصرها البشري، ووحشية ودموية فعلها الإرهابي، وبخاصة أنها اتخذت من النص الديني غطاءً لإضفاء الشرعية على وجودها وأحكامها، ومظلة يجتمع تحتها كل من انضم إليها لتبرير التحاقه بها وانخراطه في عملياتها الوحشية. بحسب ما تبيَّن من خلال هذا الكتاب، فإن الوازع الديني ليس هو في الأساس محرك الإرهاب، وإن كان النص الديني في النهاية هو الغطاء الذي استند إليه التنظيم.

هناك عناصر دفع وجذب أخرى، هي التي جعلت التنظيم يظهر بالصورة القوية والمتمكِّنة التي ظهر بها. ومن هذه العناصر، مخلفات الحرب الأمريكية في العراق والسياسات الطائفية المقيتة التي تلتها، انتشار الفوضى في المنطقة بعد اندلاع أحداث 2011، والإحساس بالظلم واليأس الذي واكب كل ذلك مما أدى إلى خلق بيئة حاضنة للإرهاب، استطاعت إقناع السكان السُّنة المحليين بإبداء دعمهم للتنظيم. وقد استغل هذا الأخير كل المنافذ التي يمكن الولوج منها من أجل استقطاب أكبر عدد من المقاتلين والمؤيدين والمتعاطفين حول العالم، وقد نجح في ذلك فعلًا. إن أسبابَ الإرهاب متعددة ومتشابكة، تلتقي جميعها في اتخاذ الدين  أو ما يرونه زورًا «نُصرة الدين»،

فالإنسان لا يولد متشددًا، إنما هناك ظروف ودوافع حولته لتبنِّي هذا الفكر المتطرف. فالفكر المتطرف في الحقيقة ما هو إلا منهج يتشبَّه بالمنهج العلمي في ظاهره، دون إلمام بالتفاصيل والآليات والإجراءات الدقيقة التي يتركَّب منها المنهج العلمي، مما يفضي إلى نتيجة خطيرة وحالة غريبة، وهي أنه تنعكس فيه المقاصد الشرعية، فتتحوَّل من حفظ النفس وإحيائها إلى ضد ذلك، وهو إزهاقها والتسبب في قتلها، وتتحوَّل من حفظ المال وتنميته وتوفيره وتسخيره في رخاء الإنسان ورفاهيته إلى ضد ذلك، وهو تبديده، والعجز عن إيجاده أصلًا، فيبرز لنا الفقر بكل نتائجه السلبية على التعليم والصحة والبيئة، وتتحول من حفظ العقل وحفظ منظومة تفكيره ومناهج عمله وتأمُّله إلى ضد ذلك، وهو تشويش العقل بضباب كثيف من المفاهيم الملتبسة، والأطروحات المغلوطة، وتتحوَّل من نشر العمران، وصناعة الحضارة، إلى ضد ذلك، وهي حالة مزمنة من الفقر والمرض والأمية والتخلف والاستهلاكية، والتخلف عن ركب الحضارة، حتى نصير عالة على الدول المتقدمة من حولنا.

لا يمكن الحديث عن مواجهة فعَّالة لهذه الظاهرة، وما يمكن أن يتناسل من رحمها، من دون المرور أولًا عبر مواجهة الأسباب التي تقود إليها ومعالجتها. إن منع الأسباب هو أول الطريق الصحيح نحو القضاء على الإرهاب، ومواجهة الفكر المتطرف. إن ظاهرة داعش يمكن أن تخمد مؤقتًا لكن لن تقضي عليها نهائيًّا. فهي سرعان ما سوف تعود للظهور مجددًا تحت مسمى جديد وبلون جديد، ربما أكثر عنفًا مما سبق، ما دامت هناك دائمًا أرضية خصبة لصناعة الإرهاب والاستثمار فيه، وظروف قادرة على دفع العقول وتحويلها لتبنِّي الفكر المتطرِّف وربما العنيف.

فالحرب التي شنتها أمريكا منذ 2001، لم تقضِ على القاعدة، ومقتل بن لادن لم يُنهِ الإرهاب، كما أن إعلان القضاء على تنظيم الدولة في سورية والعراق في 2019 لا يعني أن الإرهاب انهزم أو أن فكره انتهى.

ما أثبتته تجربة الحرب ضد الإرهاب منذ 2001. انهزم تنظيم الدولة وسقطت دولته المزعومة، لكنه فكريًّا لا يزال حيًّا ويقتات من إخفاقات الدول في القضاء على أسباب التطرف والإرهاب. وبعد تراجعه في العراق وسورية، صار يسعى للتمدُّد في بعض المناطق في أفريقيا وآسيا، وقد نجح في ذلك، وربما سيظهر هو أو غيره برايةٍ جديدة وبفكرٍ لا يقل دموية. من هنا، لا بدَّ من أن يبحث المجتمع الدولي والحكومات عن استراتيجيات جديدة للمواجهة،

 

ومن هذه الإستراتيجيات. الإستراتيجية الصلبة. فبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان رئيسها، جورج بوش الابن  بداية «حرب شاملة للخير ضد الشر». حرب لا بداية ولا نهاية ولا حدود ولا وجه لها: «حربنا ضد الإرهاب تبدأ بالقاعدة، ولا تنتهي عندها، ستنتهي الحرب عندما تحدد وتوقف وتهزم كل جماعة إرهابية قادرة على الهجوم على الصعيد العالمي... فردُّنا لن يتوقَّف عند ضربات انتقامية معزولة... على كل دولة أن تتخذ قرارًا  إما أنكم معنا أو مع الإرهاب. هذه الحرب هي ليست أمريكية فقط، بل هي حرب حضارية». منذ ذلك الوقت تخوض أمريكا حربها الدولية ضد الإرهاب. مع تكاثر أعمال العنف والتفجيرات وزيادة الجماعات الإرهابية في كثير من مناطق الصراع. ما شهده العالم خلال العقدين الأخيرين من عمليات إرهابية وتناسُل الجماعات المتطرفة المسلحة، يؤكد بما لا يدعو مجالًا للشك أن السياسة الدولية لمحاربة الإرهاب غير ناجعة، إنْ لم نقل إنَّ استراتيجية الصلبة لمكافحته أسهمت بوجه أو بآخر في تأجيجه لا في القضاء عليه.

فالولايات المتحدة بحربها على «الإرهاب» لم تكن تدري أنها توفِّر الأرضية الخصبة لانتعاشه، أو ربما كانت تقصد ذلك تحديدًا، بل على العكس، فقد وفَّرت البنية التحتية والبيئات الحاضنة لتكاثر الجماعات الإرهابية، من خلال ما شنَّته من حروب على الدول وما قامت به من تخريب بنياتها الأساسية وإضعاف مؤسساتها. ومع فراغ السلطة الحاكمة وغياب سلطة بديلة قادرة على فرض القانون، وغياب جيش وطني يستطيع حماية الدولة وحدودها، تم فتح المجال لانتشار جماعات متطرفة وإرهابية، فالطبيعة تكره الفراغ وتكره الفوضى أكثر، هذا من دون الحديث عن الطريقة التي تمت بها صناعة الجماعات الإرهابية، وكيفية حصولهم على الأسلحة والعربات التي يستخدمونها، وطريقة وصول المقاتلين وانضمامهم إلى صفوفها  وكيفية تنقُّلهم بكل أريحية ولمئات الكيلومترات من دون أن يعترض طريقهم أحد أو تلتقطه صورهم طائرة من دون طيار!

وبعد الحرب التي قادتها دول التحالف ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، منذ 2015، أعلن رئيس الوزراء العراقي (آنذاك) حيدر العبادي، في كانون الأول/ديسمبر 2017، الانتصار على التنظيم في العراق. وبعد ذلك بسنة تقريبًا، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 19 كانون الأول/ديسمبر 2018، سحب القوات الأمريكية من سورية، معتبرًا أن تنظيم الدولة قد هُزم في آخر معاقله أيضًا.

رغم هذه الأرقام والبيانات، ورغم الإعلان الرسمي عن هزيمة تنظيم الدولة في العراق وفي آخر معاقله في سورية، أيضًا، كما جاء على لسان زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، نفسه، في تسجيل مرئي، إلا أن تقييم هزيمة التنظيم استنادًا إلى استرجاع الأراضي التي كان يسيطر عليها قد يكرِّر الأخطاء التحليلية ويستخفُّ بقدرات التنظيم على العودة والظهور مرة أخرى. فالتنظيم لا يزال يسيطر على المشهد الإرهابي ويمكن أن يعاود الظهور بالطريقة نفسها التي عاد بها بعد محاربته من طرف الصحوات القبلية بين 2007 و2010، حيث عاد أقوى مما كان. يمكنه أيضًا الانتقال إلى مناطق صراع جديدة، ومنها يبسط خلافته ويستكمل مشروعه، أو، ببساطة، يمكنه أن يتأقلم مع خسارته للأرض، ويعود إلى العمل كما كان في السابق كمنظمة متمردة، وهذا ما يحدث فعلًا. فعن أي هزيمة وعن أي انتصار يتحدثون؟ فالحرب لم تقُم بالقضاء عليه بشكل نهائي ، وأن الإرهاب الذي يمثِّله ربما يكون قد خمد في منطقة لكنه سيتأجَّج في مناطق أخرى من العالم. وهذا دليل على فشل مقاربات محاربة الإرهاب التي تنتهجها أمريكا حتى الآن. إضافة إلى ذلك، فإن الحرب التي خاضتها أمريكا والعالم ضد تنظيم الدولة، قد أعطت فرصة لتنظيمات إرهابية أخرى من أجل تقوية نفسها. حيث لا تزال المجموعة الإرهابية مرنة. فعلى الرغم من فقدان داعش السيطرة على كل أراضيه تقريبًا، فهو لا يزال يشكِّل تهديدًا، بحيث إن قيادة «داعش» والتنظيمات التابعة لها ومؤيديها ينظرون إلى خسائرها الإقليمية في العراق وسورية على أنها نكسة وليست هزيمة. ردًّا على ذلك  من المحتمل أن يعود داعش إلى التمرُّد في العراق وسورية. بالتوازي مع ذلك، يركِّز «داعش» على زيادة الدعم لفروعه وشبكاته في جميع أنحاء العالم من أجل مواصلة القتال من مواقع أكثر تسامحًا، وعلى الإرهابيين الملهمين محليًّا.

إن الطريقة المؤكَّدة لخسارة الحرب على الإرهاب، في كل مرة، هي محاولة الادِّعاء أنه تمَّت السيطرة عليه والقضاء عليه، ومحاولة إبعاد تهديده عن الغرب في عقر داره أو تهديد مصالحه في الخارج، والتركيز على جانب واحد في الحرب ضدَّه، وهو محاولة هزيمته العسكرية، بدل التركيز على مواجهة ومعالجة كل جوانبه المختلفة والمتداخلة. وما دام العالم لم يستوعب بعد هذا الواقع، أو لا يريد الخوض فيه ولا إدراجه ضمن استراتيجياته، فسيجد نفسه في كل مرة متورِّطًا في حرب عسكرية لا تنتهي ضد الإرهاب. قد يعلن الفوز المؤقت على الإرهاب، لكنه يبقى مجرد فوز افتراضي ووهمي. أما النصر الحقيقي فلم يتحقَّق بعد وربما لن يتحقق ما لم تتغيَّر رؤية العالم للإرهاب وتتغير أدواته في مواجهته والتي لا تقتصر على البعد العسكري  الدبلوماسي فقط، وإنما تشمل معالجة شمولية تشمل الفكر والتعليم والثقافة والفن والإعلام. معالجة يتم فيها إشراك رجال الدين وفعاليات المجتمع المدني والمرأة والطفل والشباب، على العالم توجيهَ استراتيجيته الناعمة لمكافحةِ الإرهاب حول إزالة الظروف التي تمكِّن من نمو التنظيمات الإرهابية من خلال معالجة المظالم السياسية والاقتصادية للمجتمعات. حتى تكون النتيجة على النحو المطلوب. ما عدا ذلك فهو إعادة إنتاج للإخفاق، وإعادة إنتاج للإرهاب، لكن بسيناريوهات مختلفة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ألبوم يحتوي على أقدم صور متوفرة عن الأحساء منذ 1908

أنواع الإضاءة – إضاءة الأستوديو(5)

ملخص كتاب : مقاليد القراءة